الخميس، ٢٣ نوفمبر ٢٠٠٦

بنسيون منيرفا ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى



بنسيون منيرفا
قصة محمود البدوى

اشتغلت فى أول عهدى بالحياة فى شركة الحاج عبد الصمد للتجارة والملاحة الدولية بالسويس ..

وكان الحاج عبد الصمد هذا أميا لايقرأ ولا يكتب ، ولكنه يحمل فى رأسه عقل " شاخت " ..

وكان متعهد جميع البواخر التى تمر بمدينة السويس ، يفرغ منها البضائع ويمونها بالأغذية والأطعمة المجففة ، وكنا نعمل فى الميناء من الصباح إلى المساء ، ونظل نتعهد الباخرة حتى ترفع السلم وتدور محركاتها وتنطلق فى عرض البحر ..

وكنت شغوفا بهذا العمل مرتاحا إليه .. لأننى اختبرت فى خلاله الحياة والناس عن قرب ، فقد كنت أصعد على ظهر المركب واختلط بالركاب وأشاهد ألوفا مختلفة من الناس من كل جنس ولون .. ولقد أصبحت لطول اختبارى أستطيع أن أميز الإنجليزى من الأمريكى من الفرنسى من الهولاندى من الصينى .. دون أن ينطق بحرف .. فلكل من هؤلاء خصائصه التى تتميز بها الشعوب ..

وكنت أفرغ من العمـل فى السـاعة التاسعة مساء .. وأجلس فى مشرب من مشارب الجعة لأتعشى .. ثم أذهب إلى البنسيون الذى أقيم فيه ، وكان يسمى بنسيون " منـيرفا " وهو بنسيون صغير فى قلب المدينة ، وكنت أسكن مع أسرة أجنبية ، واخترت غرفة منعزلة لها باب داخل البنسيون وآخر مستقل .. وكانت الأسرة تؤجر ثلاث غرف أخرى لبعض النزلاء .. كانت مؤجرة غرفة لشخص يدعى محروس أفندى وكان قصير القامة ، ناحل الجسم لا يزن أكثر من ثمانين رطلا ، ولكنه استعاض عن هذا النقص بما يكمله ، فقد كانت له زوجه فى حجم الفيل .. وقد جاءت هذه الزوجة من بور سعيد لتزوره فقط لأن إقامة زوجها فى السويس كانت مؤقته .. ولكنها استطابت الحياة فى البنسيون فبقيت شهرا وشهرين وثلاثة .. وقد أخذت هذه الزوجة منذ الاسبوع الأول من سكناى تغازلنى بشكل مفضوح ..! ولم يكن وقتى وعملى يتسعان للحياة العابثة إطلاقا ، فكنت أقابل مغازلاتها بإعراض وصدود ، ولكنها مع هذا لم تيأس واستمرت فى هجومها ، وكانت صاحبة البنسيون أرملة فى الخمسين من عمرها .. ولها بنتان ، واحدة متزوجة وتقيـم فى بور توفيق .. وأخرى دون العشرين بقليل وتقيم معها .. واسمها لندا .. وكانت لندا جميلة تجيد العزف على البيان ..

وكان هناك عجوز لا عمل له يشغل غرفة من الغرف ، وكان يتكلم كل لغات الأرض ، فقد كان قبطانا فى الميناء ، وكان دائم القعود فى البيت ، يدخن ويسكر ، وينطلق لسانه بكلام لامعنى له عن حرية الشعوب ، وحرية الملاحة فى البحار ، وعن الرجال الأفذاذ الذين نسيهم التاريخ ..

وكانت هناك سيدة إنجليزية تشغل غرفة صغيرة فى الطرقة ، وكانت تعمـل فى شركة من شركات البترول ، ولم يكن جميلة ولا قبيحة ، وكانت مغرمة بالشراب ، تشرب الويسكى على الريق ..

وكنا نجتمع فى يوم الأحد ، وهو يوم الراحة لنا جميعا على المائدة ونتغدى ونشرب ونتحدث .. ونستمع بعد الغداء إلى لندا وهى تعزف على البيان ، وإلى غناء القبطان وإلى حديث السيدة الإنجليزية عن الحياة فيما وراء البحـار ، وكان القبطان يغنى أغنية واحدة بالإيطالية ويكررها ، وكان صوته قبيحا ، وكانت معانى الأغنية السامية تبتذل من طريقته فى الالقاء ، ومن صوته الكريه .. وكان يخيل إلينا أنه يخص لندا وحدها بالغزل والغناء ، وكان إذا فرغ من الغناء ابتعد عن المجلس وجلس فى ركن مظلم من الردهة يدخن ويحدق فى الفتاة ويضع رأسه على راحته ويفكر ..

وكانت لندا تحادث الجالسين جميعا فى مرح وغبطة إلا هو ، فإذا وجه إليها كلاما امتقع وجهها وردت عليه فى جفاء ظاهر .. وكانت زوجة محروس أفندى أكثر نزلاء البنسيون مرحا وسرورا بهذا اليوم ، وكانت تطبخ لنا الأرز بالسمك .. وتضع أمامى الطبق وتسألنى رأيى .. وكنت أتعمد إغاظتها وأقول لها أنه ردىء .. وإننى أكلت أحسن منه فى الكازينو ، فكانت تزم شفتيها وتصمت حتى نفرغ من الطعام .. وكان زوجها يشتغـل فى الجـمرك ، ويعمل أسبوعا فى الليل وأسبوعا فى النهار .. وكانت حجرتها ملاصقة لحجرتى ، وبيننا باب مغلق وراءه دولاب صغير للملابس من السهل أن تحركه من مكانه . فكنت خلال الأسبوع الذى يتغيب فيه زوجها ، أخشى أن تدفعها الرغبة إلى فتح الباب ، والتسلل إلى غرفتى فى ظلام الليل .. ولم أكن أشعر نحوها بأى عاطفة مما يحسه الرجل نحو المرأة .. كنت صغيرا لم أتجاوز الثامنة عشرة من عمرى ، وكان العمل المرهق يستغرق كل وقتى وكل طاقتى .. وكنت أعود إلى البيت تعبا وأستغرق فى نوم عميق ولا أحس بشىء مما حولى إلى الصباح ..

وكانت المرأة تلاحقنى وتتقصى أخبارى .. وعجبت إذ رأيتها بعد أسبوع واحد من نزولى فى البنسيون قد عرفت كل شىء عنى .. عرفت من أين جئت ، وأين أشتغـل ، وما هو أجرى ، والمطعم الذى أتغدى فيه .. والمشرب الذى أشرب فيـه الجعة ، والحلاق الذى يقص لى شعرى .. وقد أبغضتها لهذا الفضول ..

وكانت الإنجليزية تعـود إلى البنسـيون متأخرة فى الليل مثلى .. كانت تسهر فى نادى الشركة ، وكانت غرفتى كمـا وصفت مستقلة ولها باب على السلم ، وكنت أدخل البنسيون بمفتاح معى من الباب الكبير ، لأننى لا أستطيع أن أمر على غرفة محروس أفندى وزوجته ..

واستيقظت ذات ليلة على نقر خفيف على الباب .. فتصورت أن زوجة محروس أفندى تنقر على الباب الذى بينى وبينها .. فتناومت ، وعاد النقر من جـديد .. وتسمعت وتبينت أنه على باب الغرفة الخارجى .. فنهضت وفتحت الباب .. فألفيت السيدة الإنجليزية على العتبة .. وقالت :
" أرجو المعذرة لإزعاجك .. فقد طرقت باب البنسيون فلم يرد علىَّ أحد .. ولا أحب أن أزعجهم أكثر من ذلك .. فتكرم علىَّ بالمفتاح الذى معك " ..

فتركتها واقفة فى مدخل الباب وأخذت أبحث عن المفتاح فى المكان الذى اعتدت أن أضعه فيه .. وطال بحثى ..
فقالت لى بصوت رقيق :
ـ ألا تجده ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. تفضلى قليلا بالجلوس إلى أن أعثر عليه ..

ودخلت وجلست على كرسى قريب من الباب .. وبحثت فى كل جيوبى وفى كل الأدراج ، فلم أعثر على المفتاح ..
وقلت لها بعد اليأس :
ـ سأقرع أنا الباب ..
فقالت بلهجة مؤكدة :
ـ لا داعى لذلك يا اسماعيل أفندى .. وإن فعلت هذا سأذهب إلى أى فندق ..
ووقفت حائرا .. وسمعتها تقول :
ـ سأنام على هذا الكرسى .. إلى الصباح ..
فقلت لها :
ـ بل أنا الذى سينام عليه ..
وطال حوارنا .. وأخيرا رضيت بأن تحتل مكانى وأطفأت النور .. وأغلقت عينى .. وأحسست بها وهى تخلع ملابسها فى الظلام .. ثم ذهبت إلى السرير .. ومضت فترة طويلة ، وكان الظلام والسكون يخيمان على جو الغرفة .. ثم شعرت بها تتقلب على السرير ونزلت من فوقه فى هدوء .. واقتربت منى .. وشممت من فمها رائحة الخمر ..

***

وفى يوم الأحد جلسنا جميعا حول مائدة الغداء .. فنظرت إلىَّ زوجة محروس أفندى وقالت :
ـ كان فيه حرامى بيخبط عليك أول امبارح بالليل يا إسمـاعيل أفندى ..
ـ حرامى ..؟
ـ أيوه .. حرامى ..
ـ محستش بحاجة ..
ـ لازم أنا كنت بحلم ..

ونظرت إلىَّ وإلى الإنجـليزية فى خبث .. واتجهـت إلينا جميع الأنظار ..

***

وكان القبطان لايزال متيما بابنة صاحبة البنسيون ويكاد يجن بها ..

وفى غروب يوم من أيام الصيف دخلت الفتاة الحمام لتستحم .. وكانت تتصور أن الجميع فى الخارج .. فتركت باب الحمام مفتوحا ، ووقفت تحت الدش وأخذت تغنى ..

وسمعها القبطان وكان فى غرفته وقد أغلق عليه بابه .. وخرج إليها فى هدوء يتلصص حتى دخل عليها الحمام وهى عارية .. وصرخت الفتاة .. وجـاء على صوتها جميع سكان العمارة وأخذوا يضربون الرجل .. وكان أكثرهم ضربا له زوجة محروس أفندى ..!
====================================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان 15/8/1950 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " حدث ذات ليلة " وفى مجموعة " قصص من القنال " ـ مكتبة مصر
=================================


السلسلة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

السلسلة
قصة محمود البدوى

كان سليم آخر العنقود فى أسرة البحيرى .. وكما يدلل الأبن الأصغر فى كثير من الأسر المصرية حتى يطرى عوده ، ويفسد .. دلل سليم حتى فسد .. وفشل فى دراسته فرسب ثلاث مرات فى امتحان التوجيهية .. وفصل من المدرسة ..

ولما علم والده برسوبه وفصله أستشاط غيظا وأخذ يحرق الأرم ..

فقد بذل كل ما فى وسعه من مال وجهد ليستقيم عود ابنه ويفلح .. ولكن ذهبت كل هذه الجهود مع الريح ..

ودخل سليم البيت بعد الظهر ليتغدى كعادتة .. فألفى والده فى أشد حالات الغضب وأمسك به قبل أن يقرب من الطعام وما زال يضربه بقوة حتى أدماه وهرب الفتى وهو يصرخ .. وأختفى من القرية .. ثم رجع ذات ليلة متسللا فأخفته أمه عن عين أبيه حتى خرج الوالد .. فى بكرة الصباح إلى مزارعه ..

وأنتهز سليم هذه الفرصة لينفذ ما أعتزم عليه وغافل أمه وسرق منها مفتاح الدولاب .. حيث يضع والده بعض النقود للمصاريف البيتية فوجد مائة جنيه .. فأخذها وإنطلق إلى المحطة لا يلوى على شىء ..

وتحرك به قطار الإكسبريس من محطة المنيا وهو يود لو سابق الريح .. كان قد أنتوى الإختفاء فى القاهرة .. فى حى الحسين حيث الزحام والفنادق الرخيصة ..

ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان .. فإن صاحب الفندق لم يقبل أن ينزل عنده بأقل من خمسين قرشا للسرير فى الليلة لأنه لم يحمل بطاقة .. وسيغامر ولا يقيد أسمه فى سجل النزلاء .. ورضى سليم .. ولكن إقامتة لم تطل فى القاهرة أكثر من عشرة أيام .. فقد التقى به الشيخ عبد الحافظ فى مقهى بشارع الأزهر .. وأخبره أن والده عرف مكانه وأرسل ابن عمه عبد التواب ليبحث عنه ويرده مكبلا بالحديد ..
فطار مفزوعا وأخذ أول قطار إلى الإسكندرية ..

وفى ميدان المنشيا اتخذ سبيله إلى فندق إعتاد التردد عليه .. فوجد الإدارة قد تغيرت وطلب منه كاتب الفندق البطاقة قبل أن يعطية مفتاح الغرفة فسقط فى يده ..
واتجه إلى فندق آخر .. فطلبوا نفس الشىء ..
فخرج مستاء .. إذ لم تكن هذه المسألة فى حسبانه قط .

وظل يمشى متجها إلى محطة الرمل وكانت الأنوار تلمع فى الشوارع والحوانيت تعرض فى واجهاتها أجمل ما عندها من سلع .. وكان عقله يحدثه بأن يعود إلى المحطة .. ويسافر إلى طنطا أو المنصورة .. وأخيرا رأى أن يذهب إلى منطقة الرمل حيث تكثر ألوف الغرف المفروشة ولا يعقل أن يطلب منه البطاقة هناك أحد ..

وركب ترام الرمل وهو لايزال يشعر بالضيق والقلق .. ونزل فى محطة أسبورتنج قلب المصيف ..

ووقف على باب دكان قريب من المحطة يشترى علبة سجاير ويسأل البائع عن غرفة مفروشة ودله على سمسار فى الشارع الجانبى .. فاتجه إليه .. وخرج معه السمسار يرود المنطقة فى الليل .. وكانت الساعة تقترب من العاشرة وكلما شاهد غرفة طلب سليم غيرها أرخص وأنسب لحالة .. لأنه لن يبقى فيها لفترة الصيف فقط وإنما يقيم إقامة طويلة ..

وأخذ السمسار يقدح زناد فكره .. وكانت الشوارع لا تزال مزدحمة بالمارة ورصيف البحر يموج بالمصطافين .. وسارا على الكورنيش ولما دخلا منطقة كليوباتره .. تذكر السمسار غرفة هناك فى بيت قديم عند دوران مصطفى باشا ..

ووقف على الرصيف يسأل عن الغرفة .. وظهره إلى البحر .. وعينه على البيوت .. فسمع صوت أنثى يقول :
ـ توجد .. غرفة خلت من ساعة ..
وتلفتا فوجدا سيدة تطل عليهما من طابق أرضى لايعلو عن الشارع إلا قليلا ..

وكانت صبيحة الوجه فى حوالى الثلاثين من عمرها .. تلبس فستان البيت .. وتركت شعرها تداعبه النسمات الآتية من البحر ..
ودلتهما على الغرفة .. فى نفس البناية ..

وكانت لا بأس بها .. وإيجارها تسعة جنيهات فى الشهر .. فأخذها سليم دون تردد ..

ونام فيها إلى الضحى .. ولما استيقظ أحس بثقل رأسه .. كان يفكر فى السرقة وكيف أن والده لن يغفر له هذه الفعله أبدا ..

وأخذ يدور ببصره فى جوانب الغرفة .. وكانت صغيرة ولها نافذة مربعة تطل على الطريق ومرتفعة عن الأرض بمقدار متر ونصف المتر .. وبها سرير ومنضدة ودولاب من طراز عتيق .. ورأى المصطافين وهو مضجع على السرير .. وكان الصيف فى ضجيجه .. والموسم على أشده .. من الزحام ، ولكن هذه الجهة المتطرفة لم تكن فى معظم الحالات تزدحم قط .. لأنها تقع فى نهاية البلاجات الشعبية ..

وكان السكان فى الغرفة الملاصقة له مشغولين بالإستحمام فى البحر .. وبالأكلات الدسمة فلم يعيروه التفاتا .. وظل فى وحدته ..

وخرج ليأكل ويتمشى على البحر .. ثم ركب الترام إلى الإسكندرية ليشترى بعض الملابس الداخلية ولوازم أخرى إذ لم يكن يحمل معه أى شىء على الإطلاق ..

* * *

ومرت الأيام رتيبة .. وكان يقضى النهار فى منطقة الرمل ..
ولكنه فى الليل كان يشعر بالوحدة وبالفراغ .. فكان ينطلق إلى المدينة ويذهب إلى الملاهى والحانات ليسكر .. كان يشعر فى أعماقه بأنه ضائع ..

وكان قد نسى حادث السرقة بعد أن صرف نحو نصف ما سرقة فى أقل من شهر متبطلا شريدا لا يعرف له مقرا .. ولا مكانا فى الحياة ..

وفكر فى أن يبحث عن عمل فى الإسكندرية ما دام قد قطع صلته بالقرية .. ولم يكن يعرف أحدا يلحقه بعمل .. وأخذ وهو يلعب النرد مع شخص تعرف عليه فى مقهى البورصة يفاتحه فى الأمر .. فطلب منه هذا خمسين جنيها ستدفع إلى من يقوم بالوساطة .. وحدثه أن المرتب لن يقل عن خمسة عشر جنيها بحال .. وعليه أن يبحث عن غرفة خالية بأربعة جنيهات فى الشهر على الأكثر ليستطيع أن يعيش ويتدبر أموره .. وبعد محاورة ارتضى الرجل أن يأخذ ثلاثين جنيها مقدما ويدفع له الباقى عندما يتم التوظف ..

ودفع سليم ثلاثين جنيها .. على أن يوظفه فى مدى أسبوع .. وأرجأ سليم ترك الغرفة المفروشة .. والبحث عن غرفة خالية إلى ما بعد التوظف ما دام الأمر سيتم فى أسبوع .. وانقضى شهر كامل دون أن يوظف فأغتاظ .. وأختفى الرجل فى المنطقة فأدرك أنه وقع فى يدى محتال .. فزاد ألمه وغيظه .. وأخذ يقامر بالمبلغ الذى تبقى معه ليسترد نقوده الضائعة ولكنه كان يخسر دائما ..

وكان يعود فى الليل وحيدا ضائعاً .. فيجد الحى ساكنا .. وموج البحر يصفق وريح الخريف قد بدأت تزأر ..

وكان قبل أن يتوارى من خلف ضوء الشارع ويدخل فى الدرب الضيق.. يجد المرأة التى دلته على الغرفة واقفة أمامه فى الشباك تنظر إلى البحر نظرة حالمة ..

وكان عندما يظهر فى الدرب ويقترب من البيت .. يراها تنظر إليه وهو داخل .. وكان يتريث فى مشيته ليملأ عينيه منها ..

كانت رائعة التكوين ذات جسد رشيق وشعر فاحم وبشرة أنصع من بياض العاج وقد جعلتها شمس البحر كأنما أشربت بماء العسجد .. وكان صدرها النافر يطل من الشباك .. كأنه يود أن يرتمى فى الماء ليبترد ..

وفى كل ليلة كان يراها وهو عائد بمفرده إلى غرفته .. إنها كانت دائما هناك .. بصمتها وسكونها .. وعيناها المفتوحتان تحملق فى البحر .. كأنها تترقب أحدا على سفينة ..

وكان يتصورها وحيدة فى مسكنها ثم رأى فى داخل الشقة سيدة أخرى مسنة .. قريبة الشبه منها .. وعرف إنها أمها .. وكانت السيدة العجوز .. تقوم بكل أعمال البيت .. وتركت الشابة الجميلة تنعم بمنظر البحر ..

وفى أمسية من أمسيات الخميس رأى رجلا سمينا يفتح شقة السيدة بمفتاح فى جيبه .. وكان قصيرا مربوعا .. غليظ العنق ضخم الكرش .. وله وجنتان منتفختان وعينان ضيقتان ..

ورآه يخرج مع السيدة فى صباح الجمعة وينطلقان فى اتجاه البحر ..

وعرف إنه زوجها ويشتغل فى شركة السكر بالحوامدية .. وإنه مستأجر هذه الشقة خالية طوال العام بإيجار رخيص .. وتبقى زوجته ومعها أمها فيها إلى منتصف أكتوبر .. ويزورهما هو كلما سمح له عمله ..

* * *

واستمرت هذه العلاقة الصامتة بين سليم وبين جارته التى دلته على الغرفة مدة شهر بطوله .. دون أن يتبادلا كلمة واحدة .. إلى أن حدث أن كانت والدتها فاتحة باب الشقة وواقفة فى مدخل البيت .. تتحدث مع جارة لها فدفع الهواء الباب فإنغلق ..

وكان المفتاح بالداخل .. وسعديه أبنتها فى الخارج .. فذعرت الأم وحارت ماذا تفعل .. وجاءت سعديه وعرفت الخبر ووقفت بجانب أمها تفكران فيما تفعلانه فى هذا الليل ..

ودخل سليم من الباب ورأى ما هما فيه من حيرة وارتباك .. فكان هو المنقذ .. وأخذ يعالج الباب الخارجى ولكنه استعصى عليه .. فاضطر أن يتسلق من نافذة المطبخ الداخلية المطلة على المنور ودخل الشقة وفتح لهما الباب ..

ودخلت السيدة سعديه ووجدته واقفا أمامها .. وظل واقفا فى ردهة بيتها لحظات وهى تتأمله وجها لوجه ، ولأول مرة تراه بقامته الطويلة وصدره العريض وجسمه المفتول .. ولأول مرة تسمع صوته الخشن .. وأشاع هذا كله الأضطراب فى أعصاب المرأة الشابة ..

وأخذ منذ حادث الباب يبادلها التحية وهو خارج من البيت وراجع إليه .. وكانت ترد عليه فى ابتسامة ناعمة ..

وإذا سمعها تنادى على بائع من النافذة .. خف سريعا إليها وعرف ما تطلبه وحمل إليها الأشياء بنفسه إلى داخل الشقة .. وانصرف على الفور ..

وكانت تتمنى لو بقى ليحادثها قليلا فإنها كانت تشعر بالوحدة المرة .. رغم وجود أمها معها .. ولكنها كانت تتوق إلى محادثة رجل .. محادثة رجل له لطف وإيناس هذا الشاب .. لينسيها متاعبها مع زوجها .. ويدخل السرور على قلبها .. فإنها منذ تزوجت وهى فى خلاف ومنازعات معه ..

وفى الفترة القصيرة التى يأتى فيها لمدة يوم أو يومين يمرضها بسوء معاملته حتى ملت عشرته وكانت تبقى فى الإسكندرية إلى منتصف أكتوبر أو نهايته وتدفع إيجار الشقة من إيرادها الخاص .. لتكون بعيدة عن بيتهم فى الحوامدية ولتريح أعصابها أربعة شهور كاملة ..

وكانت لا تحب الإختلاط .. وتتوق إلى الوحدة .. لتتأمل نفسها .. وتتأمل ما حولها .. ولكنها أحست بحاجتها إلى محادثة رجل .. تحادث أى إنسان له لطف وإيناس سليم ..

ولكن سليما لم يكن يبقى إلا لحظات .. ثم يمضى .. يشيع فى نفسها الاضطراب ثم ينسحب بهدوء ..

وكانت ترقبه وهو يمضى بجسمه الفارع .. ولم تكن تدرى ما الذى يعمله على التحقيق .. فسنه أكبر من سن الطالب .. ولكنه لا يشتغل .. يبدو متعطلا لا عمل له ..

فهى تراه يعود إلى البيت مرة فى الظهر ومرة فى العصر .. ومرة بعد منتصف الليل .. لم تكن له مواقيت إطلاقا .. فهو من غير شك متعطل .. وأعجبت به لأنه متعطل وإنه ينطلق على هواه .. وكانت تود أن تنطلق مثله وتذهب إلى كل مكان .. وفى محبسها كانت تشعر بالتعاسة .. وفى خلال تسعة أعوام من الحياة الزوجية كانت تشعر بالكآبة .. لم يضحك قلبها فى خلالها مرة واحدة ولم تتفتح براعم نفسها لكلمة حلوة نطق بها الرجل الذى ارتبطت به .. وحتى عندما يجئ إلى المصيف وفى خلال الأيام القصيرة التى يقضيها معها كلما فرغ من عمله .. كان ينكد عليها عيشتها ويثور فى وجهها كالزوبعة محملة بالتراب والهباب ..

وذات مساء وكانت سعديه ساهرة تطل من وراء النافذة إلى البحر والكورنيش .. رأت سليما عائدا وحده وكان يمشى متثاقلا ويبدو حزينا .. مثقلا بالهم على غير ما رأته من قبل .. وأحست بالعطف عليه وإنها يجب أن تشعره بعطفها .. فحملت له طبقا من الحلوى صنعته بنفسها ..

وتناول من يدها الطبق وهو ينظر إلى عينيها وشعرها وصدرها والعطر الأنثوى من جسدها ..

وكانت تود أن تخرج هاربة بالسرعة التى دخلت بها .. ولكنه أشار إلى الكرسى لتستريح فى حجرته الصغيرة ، فلم تجلس ووقفت تحادثه .. وتنظر إلى عينية وشبابه وخلوته فى تلك الغرفة الصغيرة بعيدا عن الأنظار ..

وحدثها عن بلده وعن رسوبه فى الإمتحان وعن سبب مجيئه إلى الإسكندرية .. ولكنه كتم حادث السرقة ..
وشعرت المرأة بعد حديثه بعطف أكثر عليه ..

وسألته بحنو وبساطة :
ـ وكيف تعيش .. ؟
ـ معى بعض النقود وسأبحث عن عمل ..
ــ هل تشتغل فى شركة السكر .. ؟
ـ أين .. ؟
ـ فى الحوامدية .. سأحدث زوجى ..
ـ لا .. لا تحدثيه بشأنى .. سيسألك ما علاقتك به .. هل هو قريبك .. وستجرين على نفسك المتاعب ..
ـ سأقول إنه جارنا ..
ـ أن هذا لا يكفى .. أرجوك .. لا تسيئى إلى نفسك ..
ونظر إليها فاحمر خداها والتهبا ..

وازداد عطف المرأة على الشاب لما علمت بسوء حظه .. وفتحت صدرها له .. وأستغل الشاب تلك المعاملة الكريمة فأخذ يتودد إليها ويحادثها فى رقة ..
وكلما رأته أرتعشت ثم تنظر إليه نظرة غريبة ..

رآها أمامه ساكنة تحدق فى وجهه وتود أن تقول له شيئا ولكنها تعجز عن النطق به ..

إنها كانت هناك دائما فى نافذتها ترقبة بصمتها ..

* * *

وفى ذات ليلة .. عاد متأخرا .. وكان مغموما وقد أحس بنقوده قاربت على النفاد .. وازداد غما أنه غازل امرأة تسير وحدها فى طريق الكورنيش فردت عليه بغلظة وقالت له :
ـ امش يا جعان .. واشتر لك قميصا قبل أن تغازل ..
وشعر بطعنة كالخنجر ..
لقد ردته المرأة إلى واقعه .. وسيجوع فعلا ولا يجد ثمن القميص .. وارتعش بدنه لهذا الخاطر ..

ورأى سعديه كعادتها جالسة قرب النافذة ووجهها إلى البحر ونظرها إلى الفضاء .. وراقب خيال أمها فى داخل الشقة فلم يره .. فأدرك أن العجوز قد نامت ..

وظل واقفا على الحاجز ينظر إلى البحر .. وفكره مع المرأة التى طردته بقسوة .. والمرأة التى خلفه هناك على بعد خطوات منه .. وأخذ يدخن .. أن أفتقاره إلى المرأة ألهب حواسه .. ورآها تنظر إليه تراقبه من بعيد .. كأنها تناديه ..

كانت خصائل شعرها محلولة .. وثوبها الفضفاض أشبه بقميص النوم، واسع العروة قصير الأكمام يداعبه هواء الليل ويترك جسمها ينطلق على حريته ..

وبصر بذراعيها العاريتين تسحبان دلفتى النافذة إلى الداخل ..
وبعد لحظات أنطفأ نور الغرفة فأدرك أنها دخلت الفراش ..

وظل يروح ويجئ فى مكانه فى خط واحد كأنه يقيس أبعاد الأرض بقدميه .. وكان البحر يهدر بجانبه ولكنه لا يسمع هديره كأن حسه كله هناك فى الغرفة التى أظلمت منذ لحظات ..

وقد الهبت حواسه الرائحة المنبعثة من البحر .. وتخيل العطر الأنثوى ، من جسد المرأة فظل فى مكانه شاردا لا يطرف .. ثم تحرك فى اتجاه الكازينو ووجده ساهرا وكان يود أن يجلس هناك ليشرب شيئا ، ولكنه أحس بقلة النقود فى جيبه وهو فى حاجة إلى الطعام أولا ليعيش ويتحرك ، فظل يمشى على البحر ..

ولما ارتد إلى مسكنه كانت الساعة تقترب من الأولى صباحا .. وفتح خياشيمه لليل وهواء البحر .. وعندما دخل من الباب لم يتجه إلى غرفته وإنما ظل واقفا فى ردهة البيت ، وعيناه تبرقان فى الظلام ..

وكما يفعل اللص تماما، اتجه إلى المنور وإلى مطبخ السيدة وعالج النافذة الصغيرة سريعا ، ثم علا وقفز منها إلى داخل الشقة وظل قابعا فى الظلام ملتصقا بالحائط حتى يتبين أن سعدية تنام وحدها .. وبعد دقيقة واحدة رأته بجانب فراشها .. وكانت متيقظة فى خوف كأنها تتوقع منه هذه الحركة .. فلم تصرخ وردت الباب حتى لا تسمع أمها أى حس .. كان الخوف يشل كل حركة لها ..

* * *

وعندما خرج متلصصا كما جاء ، لم تسرح شعرها المنفوش ولم تسو طيات ثوبها .. كان عقلها يود أن يبقى الأثر إلى الصباح ..

وفى الليلة التالية جاءها متسللا من المنور ، فلم ترده ولم تصرخ .. وظلت العلاقة بينهما أشبه بمد البحر .. ظل البحر يحملهما على موجه .. ويدور بهما مع مهب الريح العاصف ..

* * *

ولم تعد سعدية تحسب حساب أمها النائمة فى الغرفة المجاورة أو تحسب حساب أى إنسان آخر .. أنطلقت مع أنوثتها كأنما مسها السعار ..

وكانت سعدية تشعر بأنه جائع ومحروم وعاطل ، وإليها يلقى به موج البحر .. كما يحمل موج البحر العشب الميت والعفن إلى الساحل ولكنها لم تكن تشتم العفن ولا تراه .. كانت تعيش بحواسها المخدرة ..

وذات ليلة لمح وهو يسوى شعره ساعتها فى غرفتها على منضدة الزينة .. فوضعها فى جيبه بهدوء ..

وعرفت فى الصباح إنه سرقها .. ولكن لم تحدثه قط ..
ولما جاء زوجها وسألها عن الساعة قالت له إنها سقطت من يدها فى الترام دون أن تشعر ..

ومر الحادث بسلام .. وكانت تعرف أن سليما باع الساعة ليأكل بها .. فأخذت تعطيه النقود بسخاء دون أن يطلب منها ذلك ..

واستمرأ هذه العلاقة ولم يعد يفكر فى العمل أو فى أى شىء آخر ..

وكان فى الساعات التى ينفرد بها فيها .. ويحسان بالخلوة وأن العالم لهما وحدهما يحدثها عن عواطفه وما ينطوى عليه صدره ..

وحدثها عن والده وكيف كان يدللـه وهو صغير حتى فسد ثم أصبح يخافه خوفه من الموت لأن التدليل والحنان انقلبا فى يوم وليلة إلى قسوة وحشية وأصبح يضربه بقسوة بالسوط ..لأدنى سبب ..

وقال لها معللا فشله ..
ـ ومن الخوف من أن يضربنى بالسوط .. رسبت فى الإمتحان .. ومن الخوف من سوطه فشلت فى كل خطوة فى الحياة .. وجاء أخيرا الرجل الذى ضحك على وأخذ منى كل ما معى من نقود ليوظفنى .. وكنت وأنا صغير أود أن ألقى بنفسى فى ماء النيل وأستريح من كل عذاب .. ولكننى عشت معذبا وأنا أكتم كل أحاسيسى فى نفسى ..
وجئت إلى هنا طريدا لأجد عطفك ..

وأمسك بيدها ..
ـ لا تفكر فى شىء ..
قالت هذا بعذوبة ..
ودفن رأسه فى صدرها .. وأخذ يبكى ..

* * *

ومنذ تلك اللحظة أصبح لا يمر يوما دون أن يلتقيا ولكنها كانت تتجنب السير معه على سيف البحر وتحسب لذلك ألف حساب ..

أما إذا أرخى الليل سدوله وهدأت الكائنات فإنها كانت تتوقع قدومه إليها فى كل لحظة فى منتصف الليل وفى أخرياته وقبيل الفجر فى كل الحالات كان يأتى وتتلقاه بخوف .. فإنها فى كل لحظة كانت تتوقع إستيقاظ أمها أو عودة زوجها من السفر فجأة ولهذا الخاطر كانت أعصابها تشد كما يشد الوتر على الكمان ثم تسترخى وتروح فى مثل الغيبوبة بين ذراعيه وهى مغمضه عينيها .. وتظل العينان مغمضتين حتى بعد أن يتسلل إلى الخارج هاربا وتحس بلفحة الهواء البارد تهب على وجهها فى الفترة التى يفتح فيها الباب.. ويمضى كالسهم وفى خلال أربعين يوما أحست تماما بأنها قد رجعت إلى طاحونة جدها الشيخ عبد الفتاح عندما كانت تذهب مع الخادمات لطحن القمح وتجلس بجانب « الكادوس » وترى الحجر الثقيل يلف والحب يتساقط ويدور تحت الرحى فى مثل الدوامة ..

وكانت تشاهد هذا المنظر والجعجعة تصم أذنيها والصداع يمزق راسها ..
ولكنها مع ذلك كانت فى كل مرة تذهب وهى منتشية ..

وقد رجعت الآن إلى الطاحونة وفى كل مرة ينتابها الصداع من الخوف ومن وقع المفاجأة .. ولكنها لا تستطيع غلق الباب لأنها وقعت تحت سيطرته تماما ..

وقد جعلها الإحساس الغريزى تفكر فى أن تضع الغطاء على رأس أمها وهى نائمة إلى الحد الذى يكتم أنفاسها وعجبت أن يسرح بها التفكير إلى هذا الحد .. ولكنها كانت تسير بقوة لا تستطيع ردها ..

* * *

وهبت ذات ليلة من نومها مذعورة على حلم مزعج .. فقد حلمت أن زوجها يخنقها فى الفراش وهى تصرخ وجاءت أمها على صراخها وخلصتها من قبضته ..

وفتحت عينيها فوجدت أمها على السرير ..
ـ مالك يا بنتى .. ؟
ـ لا شىء .. يا أماه .. كابوس .. وقد ذهب ..

وظلت أمها فى الغرفة ولكنها تضايقت من وجودها :
ـ أريد أن أنام يا ماما .. اتركينى أرجوك ..

وتكورت .. دون أن تضع الملاءة الخفيفة على جسمها ..
وبعد ساعة فتح زوجها الباب ودخل .. وظنها نائمة .. فخلع بذلته وتمدد بجوارها دون أن يوقظها ..

وغفى الزوج .. ثم تنبه على سقوط شىء على الأرض .. وظن قطة دخلت من نافذة المطبخ لتلعق بقايا الطعام .. ولكنه لما حرك عينيه ونظر فى الظلام رأى شيئا يقترب من غرفته ..

فنهض من الفراش سريعا .. وجرى الشبح فى الصالة ولكن الزوج أمسك به وتصارع الرجلان فى الظلام صراعا رهيبا فى صمت دون أن يتبادلا كلمة واحدة وكل واحد منهما يضرب رأس الآخر بكل ما يقع تحت يده ..
وأخيرا سقط الزوج صريعا مضرجا بدمه ..

ووقفت الزوجة وأمها تصرخان فى قلب الليل الساكن وفر الرجل الآخر.. فر سليم لا يلوى على شىء وهو يعدو عدو المجنون وقميصه ممزق ملطخ بالدم .. ولما وجد ثغرة فى سور الكورنيش قفز إلى البحر وغاص بحذائه فى الماء وظل يبتعد عن الشاطئ وهو يبحث بيديه وقدميه عن حفرة تحتوى جسمة كله ..

وسمع صفارة تزعق .. ورأى الناس يجرون على الساحل ويقتربون منه .. على شكل حلقة .. ولكنه لم يعد يخافهم فى هذه اللحظة فقد قطع السلسلة التى كانت تربطه بهم وبالحياة ..

وقد راح فى الدوامة ولم يعد يدرك ما حوله .. ولا يحس بأى شىء على الإطلاق ..
================================
نشرت القصة بمجلة آخر ساعة 13/9/1961وأعيد نشرها فى المجموعة التى تحمل اسم " عذراء ووحش " لمحمود البدوى عام 1963 وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
=================================




البرج ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


البرج
قصة محمود البدوى

عندما استولى الألمان على « الضبعة » فزعت الشركات الكبرى وبيوت المال الموجودة فى القاهرة .. وأخذ الأثرياء والذين ارتموا فى أحضان الإنجليز يعدون العدة للهرب إلى السودان ..

وكانت الغارات متصلة فى النهار والليل والحرب قد أصبحت على خطوات منا ..

وأسرع الناس يخفون جواهرهم وحليهم ويسحبون ودائعهم من البنوك ..

واتخذت طريقى إلى البنك الأهلى كالعادة لأصرف المبلغ المخصص لمرتبات الموظفين فى الشركة ..

ووقفت على جانب من الطاولة الطويلة أعد السبعة آلاف جنيه وبجوارى زملائى من الصيارف .. وكانوا يتحدثون فى قلق .. عن مصيرنا جميعا فى الشهر المقبل .. وهل سنجىء إلى هنا ونقف هذه الوقفة .. ؟ أو سنكون فى عرض الطريق ..

ووضعت المبلغ فى حقيبتى وخرجت من صالة البنك إلى شارع قصر النيل ووقفت على الناصية انتظر سيارة أجرة لأركبها إلى الشركة كما كنت أفعل كل مرة .. وفى أثناء ذلك دوت صفارة الانذار .. فملت إلى الباكية .. لما سمعت أزير الطائرات فوقى وقصف المدافع المضادة .. وكان الضرب شديدا حتى خيل إلى أن بعض الجنود قد هبطوا بالمظلات فى مداخل العاصمة وعلى رأس « الكبارى » والطرقات ..

واشتعل رأسى بخواطر لم أفكر فيها قط وأنا واقف وبجوارى أكياس الرمل التى تحيط بالبنك .. جاءت من وحى الساعة .. وطالت الغارة .. وكانت كل لحظة تمر تشد من عزمى إلى تنفيذ ما انتويته .. بأسرع ما فى المستطاع ..

وبحماسة الشباب لكل مغامرة .. ودون خوف .. انطلقت بالمبلغ إلى بيتى وأخذت أعد حقيبة السفر بالسرعة التى يتطلبها الموقف ..

وكانت محطة القاهرة تعج بالجنود الإنجليز الهابطين من القطارات والصاعدين إليها بأحمالهم ، وبنادقهم على أكتافهم .. وأثر الهزيمة باد على وجوههم .. والناس يتخاطفون الصحف .. والأنباء فى كل لحظة تأتى بخبر جديد ..

وسرنى الزحام الذى وجدته فى المحطة .. والجمهور الغفير بأزيائه المختلفة.. فتهت فى وسط هذه الجموع حتى ركبت قطار الظهر المسافر إلى الإسكندرية ..

ولم أكن أعرف حتى بعد أن تحرك القطار أين سأنزل ولكننى كنت أعرف كل شبر فى الإسكندرية ..

* * *

وكانت الحركة فى الإسكندرية عادية جدا والمدينة كما ألفتها .. ولا يغير من وجهها سوى وجود الجنود الإنجليز والأمريكان بكثرة فى الشوارع .. وكنا فى بداية الصيف .. والجو لطيف .. والمدينة لا تزال ضاحكة ..

وجلست فى مدخل قهوة صغيرة فى شارع « النبى دانيال » لأستريح وأختار مكان الإقامة ..

ووجدت بعد تأمل أن الموقف يتطلب أن أبتعد عن كل مكان يمكن أن ألاقى فيه شخصا أعرفه .

واخترت بقليل من التفكير « المندرة » .. لأنى أعرفها جيدا ولأنها بعيدة عن العيون ..

وقد تنشر الصحف صورتى فى الصباح التالى وتروى ما حدث بإثارة .. وقد تجبن الشركة عن النشر لأنها يهودية .. وتتوقع دخول رومل .. فى كل لحظة ..

وفى كلتا الحالتين أنا آمن فى المندرة .. وهى خير مكان ..

وخلال لحظات كانت تمر فى زحمة المدينة كنت أنسى أننى هارب وأحمل سبعة آلاف جنيه مسروقة ..

وبلغت « المندرة » وقرص الشمس يتدلى فى البحر .. وكان البحر لا يزال يهدر وموجه يزحف على الشاطئ الرملى ..

واتجهت إلى المساكن .. وأنا أعرف أن كثيرا من السكان هجروا الإسكندرية بسبب الغارات وزحفوا إلى الريف ..

فكانت المساكن الخالية كثيرة جدا .. ولم أكن أود أن أستعين بأى انسان فى البحث عن غرفة ..

تركت المنازل القريبة من البحر ، وعبرت شريط سكة حديد « أبى قير » كنت أود أن أجد غرفة هناك فى المنازل المقامة على التلال .. والتى تحيط بها الحدائق الصغيرة .. هناك يمكن التخفى فلا أحد يتعقبنى فى مثل هذا المكان ..

كانت المنازل متشابهة وقليلة الارتفاع .. واسترعى انتباهى منزل على شكل برج كان أعلاها جميعا .. وبه لافتة تشير إلى غرفة للإيجار ودرت حوله مرتين .. ثم ضغطت على الجرس .. والحقيبة لا تزال فى يدى وعيناى تتطلعان إلى فوق .. ولم أتلق ردا .. فطرقت الباب خشية أن يكون الجرس معطلا ، طرقته مرتين فلم أسمع غير السكون فتسحبت متمهلا على الرمال .. وأنا أفكر فى الذهاب إلى جهة أخرى ..

وهفا إلى من عل صوت ناعم يقول :
ــ مين .. ؟
فتطلعت إلى فوق .. فرأيت سيدة شابة تطل من نافذة البرج ..

بدت لى أنها خارجة على التو من الحمام .. كانت محلولة الشعر .. والروب الأزرق ينفرج عن صدر كالمرمر ..

وقلت وأنا أحاول أن أجعل صوتى خافتا لا يسمع ..
ــ فيه غرفة مفروشة ؟
ــ أنا نازلة ..
وحدث ما توقعته .. فهبطت وفتحت الباب .. ووقفت أمامى تتفرس فى وجهى وأنا ممسك بالحقيبة .
وسألتها عن الغرفة ..

فسألتنى بنعومة :
ــ عاوزها .. شهر واحد أو شهرين .. ؟
ــ شهرين وربما أكثر .. عندما تستقر الأمور ..
ــ طيب .. لما أسأل ماما .. اتفضل ..

ودخلت من الباب الخارجى .. إلى فسحة صغيرة .. وقدمت لى كرسيا .. وانسابت إلى الداخل وهى تقول :
ــ يا ماما .. فيه واحد أفندى عاوز يسكن ..
وسمعت الجواب آتيا من بعيد دون أن أرى صاحبته ..
ــ طيب يا بنتى وماله .. فرجيه على الغرفة اللى فوق ..

وصعدت سلالم البرج .. وراءها إلى غرفة علوية مفروشة بأثاث بسيط .. ولكنها جميلة وتطل على ناحية البحر ..

ويبدو أنها كانت بداية لشقة كاملة .. ولكنها لم تتم فقد ظهر أثر ذلك على السطح ..

وكان لابد أن استعمل دورة المياه الموجودة فى شقتها .. لأن الغرفة لم يكن لها دورة مياه خاصة ..

ولذلك أعطتنى السيدة مفتاح الشقة .. ونقدتها أجر الغرفة مقدما عن شهر ..

وأخذت تدلنى على كل شىء فى الغرفة .. ثم خرجت بى إلى السطح وأرتنى برج الحمام .. الذى أصبح خاليا تماما .. وشاهدت معها المنظر كله وما يحيط بالبيت من بساتين .. ومنازل صغيرة على غاية من الجمال ..

وسألتنى بدماثة إن كنت فى حاجة إلى مزيد من الأثاث فى الغرفة .. فشكرتها .. وقلت لها أن الموجود فيها فوق الكفاية ..

وحيتنى ونزلت إلى شقتها وجلست ببذلتى متجها إلى ناحية الشمال .. وكانت الشمس تجنح للغروب والهواء يحمل إلى من بعيد نسيم البحر ..

وكانت تلال الرمال المحيطة بالبيت تلمع فى الشمس والنخيل الكثير المحيط بالمساكن يوحى إلى بأننى انتقلت فجأة إلى واحة .. هادئة ساكنة ..

كان يخيم على « المندرة » .. هدوء غريب .. كأننا فى صميم الريف هدوء كنت أطلبه بجدع الأنف فوجدته بسهولة .. أنه أحسن مكان لهارب ..

وكانت الحقيبة الملآنة بأوراق البنكنوت موضوعة هناك فى الركن ولم افتحها .. وأخذت أفكر فى المكان الذى أخفى فيه المبلغ .. أأتركه كما هو فى الحقيبة أم أنقله إلى الدولاب .. وأخيرا وضعته فى درج الدولاب .. وغطيته بالملابس الداخلية ..

وخلعت بذلتى واغتسلت من تراب السفر .. ورأيت شقتها وكانت مكونة من غرفتين صغيرتين وفسحة .. ورأيت والدتها العجوز .. ولم أر فى البيت سواهما .. وكان الأثاث يدل على أن الأسرة متوسطة الحال .. ووجدت فى عين الأم صرامة لما وقع بصرى عليها .. وكانت ساكنة الطائر ولكن حسها كان يعلو دائما على صوت ابنتها .. وكانت هذه طيعة لها على طول الخط ..

* * *

وعضنى الجوع .. فركبت القطار فى الليل إلى المدينة .. وكان الاظلام تاما .. والناس رغم الظلام فى حركة دائبة .. والملاهى ممتلئة بالجنود الإنجليز والسكارى ..

وكانت هناك فصائل من الجنود فى المحطة راحلة إلى الجبهة .. والدبابات تتدحرج بعيون عمياء فى الشوارع الرئيسية ..

وكان سكان المدينة قد خرجوا إلى المقاهى يستمعون فيها إلى أخبار الحرب.. وإلى دور السينما والملاهى المتناثرة على طول الكورنيش ..

ودخلت مرقصا .. وجلست إلى مائدة فى الركن وطلبت كأسا من البراندى .. وكان الضوء خافتا ورائحة الدخان تغطى المرقص .. وفى دائرة الضوء راقصة مصرية شابة ترقص رقصا شرقيا مثيرا ..

وكان جسمها لدنا بديع التقاطيع .. ومن عينيها يطل بريق الشهوة .. وحولت نظراتى إليها ولاحظت أنى لا أحول طرفى عنها ولما انتهت الرقصة مرت بجانبى لأدعوها إلى مائدتى ولكنى لم أفعل .. وجلست مترددا .. ومشت نحو زبون آخر وجلست تحادثه ..

وشعرت بعد قليل أن التردد فى دعوتها قد ولد عندى أحساسا بالضيق.. فطلبت كأسا ثم كأسا .. وجلست أشرب حتى أحمرت عيناى وأحسست بثقل فى رأسى .. وأخذت أحس أكثر وأكثر بفظاعة ما عملته فى الصباح .. وبأننى لا أستطيع أن أختفى أكثر من شهر .. ثم أقع فى قبضتهم .. وأنه لا شىء ينقذنى إلا دخول رومل وسحق الشركة بكل من فيها من يهود ..

وكان الخوف من دخول السجن قد أرعبنى فجلست حزينا منقبض الصدر ..

* * *

وعندما خرجت إلى الشارع كان الجو لطيفا وهواء البحر يرطب الوجوه .. وشاهدت بعض المجندات الإنجليزيات يتبخترن فى شارع صفية زغلول .. فى ملابسهن الرسمية وكن جميلات أنيقات .. وخدودهن وردية .. وكان الحزن والقلق والخمر التى شربتها قد جعلتنى أشتهيهن بجنون ، كانت الرغبة الجنسية هى منقذى الوحيد من عذابى وقلقى ..
ولما ملن إلى شارع « شريف » تبعتهن ودخلن السينما .. فدخلت وراءهن وجلست فى نفس الصف ..

وكان الفيلم مثيرا .. ورغم ما فيه من مواقف فقد جلسن ساكنات ..

وكان هناك جنود انجليز فى الصالة يشاهدون الفيلم مثلنا فلم أحفل بهم اطلاقا .. وتولد عندى فى هذه اللحظة أحساس رهيب للقتال .. ودوت صفارة الانذار فى الخارج .. فتوقف العرض فى السينما .. وظهر على وجوه المجندات الاضطراب .. والخوف .. ونحن فى هذا المستطيل الضيق والظلام يرج النفس ويمزقها ..

وتلقين من بعض الجنود اشارة فنهضن وخرجن متسللات .. كانت هناك عربات مغلقة تجمعهن فى الشوارع ..

وخرجت بعدهن ومشيت فى الظلام إلى المحطة وأنا شارد الذهن تماما ثم ركبت القطار إلى المندرة ..

* * *

ومن عادتى أن آخذ حماما بعد كل جولة فى المدينة فخلعت بذلتى ولبست البيجاما ونزلت إلى شقة سعدية وكان السكون مخيما ولم أكن أعرف أتنام مع أمها فى غرفة واحدة أم تنام وحدها .. لم أسمع حسها .. ولكن فى الصباح عرفت أنها كانت ساهرة وأحست بى وأنا فى الحمام ..

ومرت عشرة أيام استطعت أن أشعر فى خلالها بالاطمئنان وأن أحدا لا يتعقبنى وأن مصيرى قد أصبح مجهولا للشركة فمن المحتمل جدا أن يتصوروا أننى أصبت فى غارة .. أو قتلت فى حادث سيارة فى الظلام ..

ولكن الشىء الذى أقلقنى أن زحف رومل قد توقف فى العلمين .. مما جعل الشركات تجمع شملها من جديد ..

ولم أكن أود أن أطلق لحيتى أو أغير زيى فألبس الملابس البلدية مثلا بدل البدلة .. لم أكن أود أن أفعل هذا أمام « سعدية » .. وأمها حتى لا أثير شكوكهما .. وعلى الأخص أنه لم يكن بينى وبين الأم أية مودة .. وكل ما فعلته اننى غيرت اسمى من إبراهيم عبد الكريم إلى سيد عبد القادر .. ولم أبق فى حوزتى أية أوراق تشير إلى اسمى الحقيقى ..

وكان البيت هادئا .. وليس فيه من السكان .. سوى سعدية وأمها وساكن فى الدور الأرضى .. وكنت لا أراه إلا لماما ..

وكان « سليم » يعيش وحيدا .. ويقولون أن زوجته هجرته .. لما اشتعلت الحرب واشتغلت راقصة فى القاهرة .. وعشقها أحد الضباط الإنجليز وأصبحت محظيته ..

وكان الرجل فى حوالى الثلاثين من عمره قويا طويل العود .. ولكن أثر حادث هرب زوجته على عقله .. فأصابته لوثة .. من كثرة كلام الناس عن زوجته وتقريعهم .. وكان الصبيان يتضاحكون عليه فكان يثور عليهم ويحاول ضربهم ثم يهدأ سريعا ..

وأصبح يبتعد عنهم ويعيش فى عزلة تامة ولا يأتى إلا إذا خيم الظلام .. فكنت لا أراه إلا نادرا .. ويخيل إلى أنه لا يأتى إلى البيت إلا لينام .. ولم أكن أعرف عمله على وجه التحقيق ..

وانقضى أسبوعان آخران .. ووجدت نفسى لطابع الملال أقضى الليالى كلها فى ملاهى الإسكندرية .. وكنت دائما أضع فى محفظتى .. عشرة جنيهات للصرف .. وثلاث ورقات كل ورقة بمائة جنيه فى جانب من المحفظة وأبقيها ولا أمسها على احتمال أن البيت سيدمر فى غارة جوية وهذا المبلغ سأعيش به إلى حين ..

ولم يكن الظلام الذى يغلف المدينة يرهبنى ولا وجود الجنود الإنجليز والأمريكيين فى كل مكان ..

وكانت قوافل سياراتهم تتحرك دوما .. فى الشوارع الرئيسية وهى حاجبة أنوارها خشية الغارات التى اشتدت على الإسكندرية ..

وكانت قطع من الأسطول البريطانى راسية هناك فى مياه الإسكندرية .. ولكنها كانت لا ترى بالعين المجردة فى عرض الماء .. كانت تختفى عن الأنظار وكان وجود فصائل من الجنود الإنجليز فى « أبى قير » يجعلهم دائما من ركاب القطارات الذاهبة إلى المندرة والراجعة منها .. وفى الليل كنت أرى بعضهم سكارى يترنحون فى شوارع « المندرة » أو فى صحبة من يقودهم إلى حيث النساء الساقطات ..

وكان الفراغ والتبطل وظلام الحرب ووجود المال معى بغير حساب يجعلنى أصرف بسخاء وأدور على الملاهى كل ليلة ..

ودفعنى القلق .. إلى طلب النساء .. فكنت ألتقى بهن فى شارع « البير » وأرافقهن إلى مساكنهن ..

وحدث ذات ليلة أن نشبت معركة رهيبة بين الجنود الإنجليز والأهالى فى شارع البير وأطلق فيها النار وكدت أن يقبض على لولا أننى جريت فى الظلام ودخلت فى أول باب مفتوح صادفنى فى الشارع .. وكنت أسمع خلفى ضوضاء المعركة وصوت الرصاص وأحاول بكل جهد أن أبتعد عنها .. حتى لا يقبض على وتقع الكارثة ..

والظاهر أن سكان العمارات المجاورة فى الحى أحسوا بها .. لأنهم أطلوا من النوافذ والشرفات فى الظلمة البادية وسمعت وأنا فى مدخل البيت حركة أقدام تقترب فصعدت إلى الدور الرابع .. ووقفت على البسطة مذعورا وأنا أسمع جلبة رهيبة تقترب فى كل لحظة ..

ووقفت أمام باب مغلق أحاول أن أقرأ اللافتة المكتوبة عليه ورقم الشقة.. وهنا سمعت الباب المقابل ينفرج وأطلت منه سيدة مصرية فى حى معظم سكانه من الأجانب ..

ولما بصرت بحالى .. قالت بعذوبة :
ــ اتفضل ..
فدخلت على التو دون تردد .. وأغلقت الباب ورائى وأخبرتنى أنها أحست بالمعركة منذ بدايتها .. وأننى فى أمان الآن .. ويمكن أن أقضى عندها الليل كله .. أو بعضه .. على حسب رغبتى .. وأنها وحدها ويؤنسها وجودى وأدركت من حركاتها أنها غانية ..

وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث وكانت فرحة وشربنا وأعطتنى شفتيها.. ونمت فى فراشها ..

ولما خرجت فى الصباح .. إلى الطريق عرفت أنها سرقت محفظتى بكل ما فيها من نقود ..
وقضيت أسبوعا كاملا لا أبرح فيه المندرة ..

* * *

وأصبحت فى الشهر الثانى من هروبى وكان كل شىء مريحا فى البيت .. ولم أكن فيما عدا غسل ملابسى أشعر بأى مضايقة .. وكنت أرسل القمصان للمكوجى ولكن الملابس الداخلية ترددت فى ارسالها لأنى خشيت أن يغسلها مع ملابس أخرى .. فكنت أغسلها بيدى فى الحمام ..

وحدث أن رأتنى سعدية وأنا أفعل ذلك .. فتناولتها من يدى وقالت بعذوبة لم أسمعها من فمها من قبل ..
ــ ولماذا لم تخبرنى .. اترك غسيلك هنا .
وشكرتها بقلب حار ..
ولقد أخجلتنى بفعلها هذا ، وزادت رقتها على مدى الأيام واهتمامها بى فتحولت إليها بعد أن كانت عندى مجرد صاحبة بيت .. كانت متوسطة الطول سمينة قليلا .. وكان قوامها جميلا متناسقا .. ووجهها أبيض فى استدارة وشعرها أسود غزيرا .. وعيناها جميلتين عذبتين .. وعلى شفتيها رضاب يتحير أبدا ..

وكان صوتها خافتا عذب الجرس .. وكانت ترد على زعاق أمها بصوت هادىء حيرنى ... وكنت أسأل نفسى دائما لماذا لم تتزوج فتاة فى مثل جمالها ولها بيت تملكه ..
وكانت قليلة الخروج وست بيت ممتازة ..

وكنت بعد أن أخرج من الحمام أراه قد نظف فى دقائق قليلة وعاد رخامه يلمع .. وكان فراشى وحجرتى فى غاية من النظافة ..

وكانت تقدم لى الشاى .. والماء المثلج .. وتركب الزراير الساقطة من القمصان .. وتكوى لى البيجامة وتعد لى ماكينة الحلاقة فى الحمام ..

ولم أكن أبغى بيتا وحنانا أكثر من هذا فى حياتى .. وكان يحزننى أننى وجدت هذا البيت وهذا الحنان وأنا هارب .. مطارد ..

وكان الهدوء الذى خيم على جبهة القتال فى العلمين يمزق أعصابى .. إذ كنت أجد فى استمرار الحرب وتأججها نجاة لحياتى ..

وكان يخفف من وقع الأمر على نفسى استمرار الغارات .. والاظلام فى كل مكان .. وهجرة السكان من المدينة إلى الريف ..

وقد جعلنى القلق وكثرة المال الذى فى حوزتى أتردد على البغايا .. وأصاحب الراقصات فى الملاهى وكنت أشعر بجفاف حياتى وضحالتها ..

ولكن لم يكن من سبيل إلى شىء آخر أعمله .. ونسيت أهلى فى القاهرة.. إذ كانوا قلة وكنت أعيش فى عزلة تامة عنهم حتى قبل بداية الحرب .. ولم أكن أعرف عنهم شيئا اطلاقا وأنا فى الشركة ..

ودارت فى ذهنى مشروعات كثيرة كلما نظرت إلى أوراق البنكنوت فى الدولاب ..

وفكرت فى أشياء أعملها وأدر منها ربحا كبيرا ولكننى كنت أتردد فى التنفيذ وأخيرا استقر رأيى على أن أرحل إلى الخارج بعد أن أعثر على من يهربنى فى سفينة بضائع ..

ولم أكن أدرى هل استرابت السيدة سعدية من حالتى .. فأنا متأنق وأصرف بسخاء ولكننى كنت أخرج فى الصباح كأى شخص يعمل ولا أعود إلا فى ساعة القيلولة ..

وعندما بدأ الخريف تغيرت طباعى وزادت صلتى بها .. حتى كدت أن أعترف لها بما فعلته ..

* * *

ولقد طرق بابى ذات ليلة .. بعد أن عدت من الخارج وخلعت بذلتى .. فارتجفت إذ لم أعتد على طارق فى الليل .. ونظرت إلى المبلغ المسروق وكنت أود أن أخفيه فى طيات المرتبة ولكننى وجدت أن أى عمل الآن لا ينفع ..

واضطربت .. ثم سمعت صوتها .. ففتحت الباب فوجدتها على الباب تحمل لى الغسيل كله مكويا ..

ودخلت وهى تقول :
ــ نغير لك أكياس السرير .. والملاية .. لأنك نسيت ولم تترك المفتاح ..
ونظرت بنعومة وقالت :
ــ أمسك معى المخدة ..
وأخذت تدخل فيها الكيس .. وجذبتنى بحركة بارعة فوقعت وضحكت.. وأمسكت بها وهى نشوانة من الضحك .. وضممتها إلى صدرى .. وأخذت أقبلها بعنف وشراسة وفاجأتها الحركة .. فبهتت .. ثم استجابت برغبة منطلقة ..
ولقد لفنى بعد هذه الليلة مثل الاعصار .. وأصبحت لا أستطيع أن أقاوم اشتهائى لها وشغفى بها .. وكانت تأتينى كل ليلة بعد أن تنام أمها ..

وكنت كلما وجدتها وحدها فى الحمام أو فى المطبخ ووالدتها بعيدة عنها .. أعانقها بحرارة ..

وأخذت أغمرها بالهدايا .. أشترى لها أفخر الثياب وأنفس الجواهر ..
وكنت أعطيها النقود بغير حساب ..

وتغير الحال فى البيت .. وشعرت الأم بما فعلته لابنتها فكفت عن الجفاء الذى كانت تقابلنى به ..

ولم تسألنى سعدية عن مصدر هذا المال .. ولعلها خمنت شيئا .. ولكنها سكتت لم تصرح لى ..

وكنت أعتصر قوامها اللدن وكأننى أشرب الرحيق لحياتى .. ولم تكن ترتوى من حبى أبدا .. كانت تطلب المزيد .. وقد جعلنى هذا الاعصار أؤجل رحيلى .. وكنت قد اتفقت مع بعض الصيادين على أن يحملنى إلى سواحل بيروت .. وهناك أهرب إلى أوروبا .. عن طريق تركيا .. وقد قبل هذا نظير خمسمائة جنيه ..

لقد تكشف لى أن هذه المرأة قد استحوذت على ، وفصلتنى عن الحياة .. وعن كل ما يجرى فى المدينة .. ونسينا الحرب .. وعندما كانت تدوى صفارة الإنذار لم نكن نشعر بها .. وكنا نود أن يطول الظلام ليطول عناقنا ..

وكنت أتأمل فمها وشفتيها الغليظتين والرضاب الذى ارتوت به روحى وشعرها المتموج وقوامها بكل ما فيه من شهوة .. وأروح فى دوامة الغيرة وأتساءل من الذى تمتع بهذا واعتصره قبلى ولا أعود لنفسى إلا وأنا أشعر بأناملها الخفيفة وهى تمسح على جبينى ..

* * *

كنت كل يوم أتحسس النقود فى مكانها وأطمئن على وجودها .. وأراها رغم كل الذى صرفته كأنها لم تمس ..

كانت أوراق البنكنوت مكدسة فى صفوف كما وضعتها فى الدرج .. مغطاة بالقمصان ..

وأخذت أسائل نفسى ما الذى يفعله الأغنياء الذين يملكون الملايين .. ما الذى يفعلونه وهم يحرمون باكتنازها ملايين الأفواه الجائعة من حق الحياة ..

ما الذى يفعلونه .. وما الذى فعلته بالآلاف التى سرقتها .. لا شىء .. سوى أنها جعلتنى أحس بالضياع ..

لقد مزقنى القلق .. وحطم روحى .. كانت تغشانى موجات من الكآبة .. فكنت أقفل الغرفة علىَّ من الداخل وأزحف إلى الفراش ..
كانت رغبتى شديدة إلى الوحدة .. حتى وإن كنت أتوقع أنها بعد لحظات ستطرق بابى ..

ربما كانت الجنيهات الخمسة عشر التى أتقاضاها بعرقى من الشركة أنفع لى من هذا المبلغ .. ولكننى على أى حال قبل بداية الحرب وبعدها كشاب كنت أحس بالضياع .. وقد يكون سببه الاحتلال .. وقد يكون سببه أن كل القيم قد انهارت أمامى .. ومزقت الصور والمثل وأصبحت أعيش فى ظلام ..

* * *

كنت أفكر فى سعدية وأنا راجع وحدى فى الليل .. هل تحبنى .. وهل كانت متزوجة وأين زوجها أنها لم تكن عذراء هل جرفها التيار .. ؟

وتغشانى الضباب .. وكانت الغيوم تخيم على السماء .. وقبل أن أقترب من البيت أحسست بحركة غير مألوفة فى الحى الهادىء ..

ولما اقتربت أكثر وجدت شيئا أفزعنى .. وجدت نطاقا من الجند مضروبا حول الشارع وعساكر من البوليس المصرى .. والبوليس الحربى الإنجليزى وعلمت أنهم وجدوا عسكريا إنجليزيا مقتولا وموضوعا فى برج الحمام ودلهم عليه قبعته وقد أسقطتها حدأة فى الشارع ..

وكان الهمس يدور بأن « سليم » الساكن فى الدور الأرضى هو الذى قتله وهرب سليم لم يعثروا له على أثر وفتشوا البيت كله ..

فتشوا غرفتى .. وقلبوها ظهرا لبطن .. وكسروا الدولاب وعثروا على المبلغ ..

كنت أسمع هذا الهمس يدور حولى فى الظلام وأنا واقف ..

* * *

وهربت فى جنح الظلام دون أن يشعر إنسان بوجودى وكان معى مبلغ ضئيل .. واشتغلت وقادا فى السفن .. وحمالا فى الموانى .. وبائعا جوالا ..

وطفت حول الدنيا فى مدى عشرين عاما .. انتحلت فيها كل الأسماء .. وكل الجنسيات وتعلمت سبع لغات حية وميتة وعاشرت كثيرا من النساء ..

ورغم كل ما لقيته من عذاب .. فإن الحياة ستظل فى نظرى جميلة وضاحكة والإنسان وحده .. هو الذى يسود وجهها ..
=================================
نشرت القصة فى المجموعة التى تحمل اسم " السفينة الذهبية " لمحمود البدوى عام 1971 وأعيد " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================



النافذة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

النافذة
قصة محمود البدوى

سافرت إلى الإسكندرية لأقضى فيها ليلة واحدة أريح فيها أعصابى من عمل متصل مرهق ..

ومع أنى كنت أود أن أقضى هذه الليلة قريبا من البحر ولكنى لم أنزل من القطار فى محطة سيدى جابر .. وبقيت فيه حتى بلغ محطة « مصر » ..

ولما خرجت من نطاق المحطة .. استقبلنى أكثر من حمال ليحمل عنى حقيبتى .. الصغيرة .. واخترت الذى سألنى إن كنت أرغب فى غرفة مفروشة ..

لأنى كنت أعرف زحام الفنادق فى شهر يوليو .. وأود أن أتعلق بقشة .. فإن لم أجد مكانا فى الفندق الذى اعتدت أن أنزل فيه .. دلنى هذا الحمال على الغرفة المفروشة ولم نجد فى الفندق الذى أعرفه ولا فى غيره من الفنادق فى دائرة محطة الرمل أية غرفة خالية ..

فاستأت جدا .. لأنى أخترت هذا الوقت بالذات لأقضى عطلة الأسبوع .. وسرت مع الشاب إلى الغرفة التى حدثنى عنها ..

ولما رأيتها لم تعجبنى إطلاقا .. وبدت لى صاحبة البنسيون نفسها .. بدت كأنها « عالمة » فى شارع القلعة .. ‍!

فذهب بى الحمال إلى غرفتين أخريين .. فلم تروقا لى أيضا .. وأخيرا قال لى :
ـ لا يوجد سوى هذا .. نحن فى عز الموسم ..

فقلت له :
ـ أنى أفضل أن أقضى الليل .. فى الشارع .. على النوم فى مثل هذه الغرف .. إبحث عن شىء مناسب ..

ففكر قليلا ثم قال :
ـ تفضل واسترح قليلا .. على هذه القهوة .. هناك غرفة ستعجبك .. لكن صاحبتها .. لم ترد أن تؤجرها لإنسان وسأحاول إقناعها بكل الوسائل ..

وجلست وجاءنى بعد نصف ساعة .. وهو يسرع فى مشيته وقال بلهفة ..
ـ تفضل .. قبل أن تغير رأيها ..

ومشيت معه .. حتى وقف على باب بيت كبير .. وصعدنا إلى الدور الثانى .. وفتحت لنا سيدة مسنة الباب .. وكانت تضع يدها على عينيها كأنها لا تقوى على مجابهة الضوء ..

ونظرت إلينا طويلا .. لتذكر سبب وقوفنا على بابها .. ثم قالت :
ـ آه تفضل ..

ودخلنا البيت .. وطالعنى الهواء المرطوب .. وخيل إلىَّ وأنا فى الصالة ألا أحد يتنفس فى الداخل .. فقد كان الجو خانقا ومحبوسا وبدا لى أن نوافذ الشقة لا تفتح أبدا ..

وتقدمت أمامنا السيدة إلى غرفة فسيحة بعد أن فتحت النور فرأيت غرفة جميلة مفروشة بفاخر الرياش وهو شىء لم اقع على مثله فى المصيف ..

وطلبت من السيدة أن تفتح نافذة الغرفة .. ففتحتها بعد تردد وهى تنظر إلى ناحيتى بقوة ..
وسألنى الشاب :
ـ أعجبتك الغرفة .. ؟
ـ رائعة ..
ـ السيدة تطلب .. جنيها فى الليلة ..
ـ طيب .. هل أدفع لها المبلغ الآن ..
ـ أبدا .. على راحتك .. أدفع بكرة ..

وأخرجت ورقة بخمسة وعشرين قرشا ناولتها للشاب فاخذها وأنصرف .. وبقيت أنا فى الغرفة ..

وسمعت السيدة تقول له .. قبل أن تخرج من الباب الخارجى :
ـ الم تقل لى .. إنه عجوز .. هل هذا عجوز .. ؟
ـ ياسيدتى .. إنه شاب طيب وسيقضى ليلة ويذهب لحاله .. هل سيأخذ قطعة من الشقة ..
ـ ما كنا .. نريد أحدا ..
ـ يعنى نقول له أخرج .. الآن .. أظن هذا لا يليق ..
ـ إنك تعرف أننا وحدنا .. ماذا يقول الناس .. ؟
ـ يا سيدتى كل الناس الآن تستفيد من الصيف والبيه يجىء كل أسبوع .. يعنى لماذا لا تستفيدين منه بضعة جنيهات أحرام .. ؟
وانقطع صوته بعدها وخرج ..

وفتحت حقيبتى وأخرجت فوطة .. وذهبت إلى دورة المياه لأغسل وجهى ..

ولما رجعت سألتنى السيدة .. وكانت تنظر إلى بتوجس ..
ـ هل تريد شيئا .. ؟
ـ كوبا من الماء المثلج .. إذا أمكن ..
ـ حاضر ..

وذهبت .. وعادت تحمل الماء .. وكانت فى الخمسين من عمرها .. ولكنها كانت تبدو أكبر من ذلك .. كانت التجاعيد قد ظهرت على وجهها... والعينان انطفأ منهما البريق ..

ودارت ببصرها فى الغرفة ثم حيت وانصرفت .. ودخلت غرفتها وأغلقت عليها بابها .. وطالعنى السكون المطلق من البيت .. سكون الرمس .. فلم أسمع حسا ولا صوت ولا دقة ساعة ولا منبه ولا صوت وابور .. ككل الأشياء التى نراها فى البيوت ..

ورغم إحساسى الشديد بالجوع .. فإننى لم أترك البيت لأتعشى .. ودفعنى الفضول لأن أبقى ساعة ثم أخرج فقد كنت أود أن أعرف مع من تعيش هذه السيدة .. ولكنى بقيت ساعة .. دون أن أبصر أحدا سواها .. وأخيرا خرجت لأتعشى وأتنزه فى المدينة ..

وعدت فى نصف الليل .. وفتحت لى نفس السيدة الباب .. وخيم السكون من جديد .. ووجدت كل النوافذ وأبواب الغرف مغلقة .. ومع أنى اعتدت على النوم فى الفنادق والبنسيونات وفى الفراش الغريب .. ولكننى توجست خيفة من البيت ومن السكون المخيم ومن نوافذه وأبوابه المغلقة دائما وقد أخذت هذه الخواطر تتجسم وترعبنى وتذكرت كل ما قرأته من القصص المرعبة عن الفنادق والبنسيونات مرة واحدة .. قفزت كل هذه السوانح إلى ذهنى فجأة ..

وأغلقت الباب .. ولم أجد فيه مفتاحا .. وزادنى هذا رعبا .. فظللت ساهرا ..

وفى صراع مع هواجسى النفسية .. حتى تعبت وأخذنى النوم وأنا مضطجع ولما فتحت عينى كان الصبح قد شعشع ..

ورأيت وأنا ذاهب إلى الحمام بابا نصف مفتوح .. ووجها ينظر إلىَّ بفضول .. وجه فتاة لا تتجاوز العشرين عاما كانت تنظر إلىَّ بعينين مفتوحتين جدا .. كأنها ترى رجلا لأول مرة فى حياتها ..

وأحسست فى الحمام بالرطوبة الشديدة .. تطل من الجدران .. وبدا لى أن النافذة لا تفتح أبدا .. واغتسلت سريعا .. وعندما عدت إلى الصالة .. وجدت الفتاة لا تزال واقفة فى مكانها .. ونظرت إلىَّ بعينين أشد جسارة ..

ودخلت غرفتى وتركت الباب مفتوحا ومرت الفتاة أمامى ووراءها السيدة كانتا تنظفان البيت .. دون فتح النوافذ ..

وكانت الفتاة كلما دخلت غرفة .. دخلت السيدة وراءها .. وظهر لى جليا أنها تتبعها كظلها فى كل حركة.. وأنها بمثابة الحارس .. عليها ولكنه الحارس الأحمق الذى يمنع عنها الشمس والهواء ..

وكانت الفتاة مع جمالها النادر .. صفراء شاحبة .. وبدا لى اضطراب أعصابها .. من كل حركاتها فى البيت ..

وطلبت فنجالا من القهوة من السيدة بكل لطف وأدب مخافة أن ترفض ..

وحملته لى الفتاة على صينية صغيرة .. فطلبت منها أن تضعها على المائدة التى فى الصالة .. وبعد نصف دقيقة كانت السيدة وراءها وكانت الفتاة مضطربة جدا وخجلى ..

ونظرت إلى الظلام الذى يخيم على البيت فى الساعة الثامنة صباحا وإلى الهواء الراكد .. وإلى جو يحس معه المرء بالاختناق ..

وقلت للسيدة :
ـ لماذا لا تفتحين النوافذ كما فتحت نافذة غرفتى ألا ترين فعل الشمس .. ؟
ـ لقد اعتدنا على ذلك منذ سنوات طويلة ..

ونظرت إلى حالها فى أسف وأخذت أشرب القهوة وأحادثها وعلمت أنها عانس وأن سعاد هى أختها الوحيدة .. وأن والدتهما كانت لبنانية وأبوهما مصرى وكانا يشتغلان فى صيدلية مشهورة فى المدينة وتوفى الوالدان منذ سنوات وتركاهما لعيش الكفاف وهما الآن يقضيان معظم الوقت فى البيت ولا يتنزهان ..

ولم أسألها لماذا لم تتزوج لأنه وضح لى جدا أنها تنفر من الرجال وأنها رفضتهم منذ سنوات وقد تكون كرهتهم وأنها تحاول الآن أن تجعل الفتاة الشابة مثلها وتعيش حياتها ..

وزادت نفسى حسرات على الفتاة وأن أرى هذا الجمال النادر يروح ويجىء أمامى وهو محبوس فى شبه قمقم ..

وارتديت بدلتى وقلت للسيدة وأنا أحمل بيدى ماكينة الحلاقة الكهربائية ..
ـ هل توجد ( بريزة ) فى الحمام أضع فيها الماكينة .. ؟
ـ فى المطبخ أريها له يا سعاد .. وسأجىء لك بمرأة صغيرة حالا ..

ومشيت وراء سعاد إلى المطبخ وتناولت منى حبل الماكينة الكهربائية لتضعه فى البريزة ووقفت أبحث عن المكان الذى نعلق فيه المرآة ..

وسمعت صرخة حادة من الفتاة .. كانت وهى تضع طرف الحبل فى البريزة قد سرت فيها الكهرباء من الرطوبة الشديدة فارتعشت ووقفت حائرة وقد شلت عن الحركة فجذبتها بسرعة ووجدتها دون شعور ترتمى على صدرى بقوة وتضغط وتبكى بحرقة ..

ولما جاءت السيدة بالمرآة شاهدت هذا المنظر الأخير ففتحت فمها ولم تنطق ..

ومشينا بالفتاة إلى الصالة وبعد أن مسحت عبراتها وذهب عنها الروع ..

قلت للسيدة :
ـ أرجو أن تفتحى نوافذ البيت كلها الآن لتدخل الشمس وإلا سيتكرر الحادث على صورة بشعة ..

ففتحت السيدة فمها .. كانت تود أن تحتج ولكن أمام نظراتى القوية تحركت وفتحت أول نافذة وفتحت أنا وسعاد باقى النوافذ ..

***

وسافرت إلى القاهرة فى عصر اليوم نفسه ولكنى عدت إلى السيدة والفتاة مرة أخرى فى الخميس التالى بعد أن شعرت بأن لمسة الكهرباء مستنى أنا أيضا وأن جذبة سعاد إلى صدرى هى تنبيه قوى من الفتاة المسكينة لأنقذها من هذا العذاب ..

وتزوجنا فى الصيف نفسه ودخلت حرارة الشمس وملأت كل جنبات البيت ..

========================================
نشرت القصة فى مجلة الجيل 3/8/1959 وأعيد نشرها بمجموعة قصص محمود البدوى بعنوان " عذراء ووحش " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================





الأربعاء، ٢٢ نوفمبر ٢٠٠٦

الرجل الأعزب ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

الرجل الأعزب
قصة محمود البدوى


فى وقت العصارى .. وفى بداية الصيف كانت سيارة أجرة صغيرة تسرع على الطريق الزراعى المرصوف .. الملاصق لخط سكة حديد رشيد ..

وكان الطريق يبدو خاليا الا من عربات النقل التى تمر من حين إلى حين محملة بالأخشاب .. والدريس والأسماك .. وفناطيس البترول ..

وكانت الرمال البيضاء تلتمع تحت الشمس .. تبدو للراكبين فى السيارة كبحر من اللجين ..

وعند أدكو تمهلت السيارة .. واشتم المسافرون الثلاثة أنفاس البحيرة وشاهدوا زوارق الصيادين طاوية أشرعتها وواقفة فى صف طويل قريبا من الساحل كأنها فرغت من كد النهار وتعبه ..

وعندما خرجت السيارة من حدود أدكو أنطلقت كالسهم وركز السائق كل حواسه على الطريق وأطبق فمه .. وكذا جميع الراكبين معه .. فلم يتبادلوا كلمة واحدة ..

وأخذت النسمات الرطبة تصافح وجوههم فانتعشوا وأخذوا يتابعون مزارع الأرز والقمح والبرسيم التى يمرون بها فى الطريق ..

ولم تكن تجمعهم أية صلة غير صلة الركوب من رشيد فى عربة واحدة ..

وكان السيد / مهران المفتش السابق للرى أطول الراكبين فى السيارة قامة وأكثرهم هيبة ..

كان ذاهبا إلى الإسكندرية لمهمة قصيرة تتصل بمعاشه .. إذ سيستبدل جزءا منه بمبلغ من المال يدفع منه أقساط الأرض التى أشتراها بالتقسيط .. وقد أشتغل بالأرض وأخذ يفلحها ويزرعها ..

وانقطع منذ خرج من الوظيفة لشئون الزراعة.. وركبته الديون والهموم بسبب جهله وعدم خبرته .. ولكنه ظل فى الطريق .. يجاهد بكل ما يملك من حول ويشترى قطعة الأرض الجيدة لتكون عوضا له عن الرديئة التى أستنزفت ماله وجهده ..

وكان أعزب وأخوه الأكبر إسماعيل عاش ومات أعزب .. وورثت معاشه الحكومة .. وكان المصير نفسه يعذبه ويجعله يفكر دوما فى أن يستبدل معاشه كل سنتين أو ثلاث حتى لا يتبقى منه شىء فى آخر أيامه ترثه الحكومة ..

وكان السيد مهران فى الثالثة والستين من عمره ولكنه يبدو أصغر من سنه إذ كان طويلا قوى الجسم .. متين التركيب .. وكان كل من يراه وهو يمشى منتصب القامة منتظم الخطو يتصور إنه تخرج من كلية عسكرية ..

وكان فى خلال حياته كموظف قد ذهب إلى كل مكان حتى تفتيش الرى بالسودان قضى فيه سنتين من عمره ..

وأكسبه هذا التنقل صحة بادية .. إذ لم يكن يشكو من أية علة ولم يذهب إلى الطبيب إلا فيما ندر ..

وكان يبدو شابا فى كل حركاته .. فى مشيته .. وفى نشاطه .. لذلك لم يعر باله إلى الكشف الطبى .. الذى سيتقدم إليه فى صباح الغد .. لأنه كشف قبل ذلك مرتين .. وكانت النتيجة مرضية ..

وكانت السيارة الصغيرة تسرع على الطريق الضيق المرصوف .. وأنفاس البحر البعيد عن الركاب جدا بدت تدخل أنوفهم .. وكانوا جالسين فى صمت .. وكل راكب منهم يفكر فى خواطره وسوانح فكره .. وفيما هو ذاهب إليه ..

وكان السيد مهران يعتزم أن يقضى ليلة واحدة فى الإسكندرية وبعد الكشف الطبى يرجع توا إلى عزبته .. إذ لم يكن يحب أن يمضى أياما فى الإسكندرية .. ويترك شئونه وزراعة الأرز والقمح للريح ..

وكانت الطريق تدور وتلتوى أمام بصره وهو ينظر إلى زراعات القمح ويقارنها بزراعته .. وكان شغفه بالزراعة قد جعله يهمل هندامه فبدت بدلته غير مكوية ..

وكانت السيارة وهى تقترب من المعمورة قد بدت تدخل مع أنفاس البحر .. وبدا البحر على الجانب الأيمن من الطريق .. ساكن الموج جميلا كالعروس الضاحكة ومياهه الزرقاء تبدو كصفحة السماء ..

وعلى حين غرة اعترضت سيرهم سيارة كبيرة قادمة من الطريق المضاد وكادت تهشم سيارتهم وتسحقهم لولا أن السائق أنحرف بهم فى براعة وسرعة بعيدا عن الخطر الداهم ..

وأغمى على أحد الركاب من هول المفاجأة .. وأخذ السيد مهران .. والراكب الآخر يسعفانه حتى أستفاق ..

واستأنفوا سيرهم وأخذ السائق الذى كان ملجما لسانه طول الطريق .. يسب ويلعن سائقى سيارات النقل .. وحاملات البترول .. واقتربوا من المنتزه بحدائقه وأشجاره العالية ..

وعندما دخلت السيارة المدينة كانت المصابيح تلمع فى الشوارع وبدت أنوار السيارات تسطع فى طريق الحرية ..

وكان مهران قد زار الإسكندرية منذ ثلاثة شهور ولكنها لم تبد فى نظره جميلة كما هى الساعة .. كان الشارع الواسع بهيجا بعماراته وفيللاته .. والأشجار العالية .. تزينه .. وتزيده روعة ..

وشاهد من نافذة السيارة فيللا صغيرة من طابقين بطراز عربى ، ولها حديقة مزهرة فتمنى أن يقيم لنفسه مثلها .. فى منطقة سموحة أو مصطفى باشا .. حيث الهواء والهدوء والجمال .. ويجعلها استراحة .. ويستريح فيها بعد كده وتعبه فى الأرض ..

وبدت المدينة فى نظره جميلة قبل أن تزدحم بالمصيفين .. وتذهب نضرتها فى زحمة الناس ..

وعندما نزل من السيارة فى محطة الرمل وجد السيد إبراهيم فى انتظاره.. وهو شاب نحيل .. وكان السيد مهران قد أدى له خدمة فى التفتيش ..

وأصبح مهران كلما قدم الإسكندرية يسرع إبراهيم إليه ليساعده ويقوم نيابة عنه بكل أعماله .. فى إخلاص نادر ..

وتناول من مهران حقيبته واتجها إلى البنسيون الذى اعتاد مهران أن ينزل فيه كلما هبط المدينة .. ويقع فى شارع صغير وراء فندق سيسل وتديره سيدة أجنبية عجوز ..

وكان مهران يحب النزول فيه لهدوئه ورخصه فهو يدفع 35 قرشا فقط مع تناول الأفطار ويحس وهو يقيم فيه كأنه فى بيته ..

وكانت العجوز تعيش فى غرفة من البنسيون وتؤجر الثلاث الباقية .. ونادرا ما تشغل الغرف كلها فى وقت واحد ..

وعندما دخل عليها فى هذه الليلة .. شعر وهو جالس فى الصالة .. بوجود ساكن فى الغرفة المقابلة لغرفته وكان قوموسيونجيا .. يتجول ثم يرجع إلى البنسيون ليقضى ليلة أو ليلتين .. ثم يستأنف تجواله فى البلاد ..

واغتسل مهران ونزل مع إبراهيم ليتعشى ويتجول فى المدينة قبل أن ينام ..

وتعشى وحده فقد رفض إبراهيم بإباء أن يشاركه الطعام وجلسا على قهوة رويال .. ثم تركه إبراهيم .. بعد أن وعده بأنه سينتظره فى الصباح الباكر على باب المركز الطبى ..

ورجع مهران إلى البنسيون .. وفتح الباب بالمفتاح الذى أعطته له المدام .. فلم يجدها ساهرة ووجد سيدة تجلس فى الصالة وحدها .. ولما مر بها حياها ودخل إلى غرفته ولكنه أبقى الباب مفتوحا ..

فرأى هذه السيدة من مكانه وهى تتحرك فى الصالة .. وكانت شابة بيضاء طويلة .. لفاء العود .. سوداء الشعر .. وعلى خدها غمازتان مع أنف دقيق وشفتين فى لون الكريز .. وبصر بها تتحرك فى الصالة وتدخل غرفتها ..

ونام مهران فى فراشه .. وهو يحس بتعب المشوار الذى قطعه بالسيارة .. ولكنه لم ينم نوما عميقا .. كان قلقا .. ويود أن ينهى الكشف الطبى سريعا ويعود إلى زراعته ..

وفى الصباح .. نظر وهو خارج إلى أبواب البنسيون المغلقة .. ولعله كان يبحث عن المرأة التى بصر بها فى الليل ..

* * *

وكانت ردهة المركز الطبى ممتلئة بمن جاءوا للكشف .. عندما دخل مهران من الباب .. وقابله إبراهيم على الفور ببشاشته ..
وقال له :
ـ ورق .. سيادتكم جاهز .. وستدخل حالا ..
ودخل مهران حجرة الكشف .. فوجد سيدة ترتدى معطفا أبيض فظنها ممرضة فبحث بعينيه كأنه يود أن يسألها أين الطبيب ثم عرف بعد لحظات لما تحركت نحوه يالسماعة أنها الطبيبة التى ستكشف عليه ..

وكانت قد لاحظت نظراته فظهر على وجهها الامتعاض ولم تستطع أن تكتم أنفعالها .. وكانت خمرية اللون متوسطة الطول .. أقرب إلى السمنة .. ووجهها مستدير .. حلو ..

كان جمالها فى الواقع غريبا عنه .. فى هذا الجو .. فقد رأى من قبل حكيمات وممرضات فى المستشفيات وعيادات الأطباء ولكنه لم ير طبيبة بمثل هذه الفتنة ..

ووضعت السماعة على قلبه .. وقالت له .. وهى تنظر إلى قامته كأنها تقيس طوله ..
ـ تنفس ..
فحرك صدره ..
ـ كمان ..
وفتحت شفتيها ثم زمتهما .. وانطبقت أهدابها ..

فقال لها مهران وهو ينظر إلى الخرطوم المتدلى وفى طرفه السماعة ..
ـ هذه هى المرة الرابعة التى أكشف فيها عن صدرى لطبيب ..
ـ وكانت كلها للاستبدال .. ؟
ـ للإستبدال والإجازات المرضية ..
ـ ولغير هذا ..
ـ لم يحدث ..
ـ لم تمرض فى حياتك ..
ـ ابدا وكل الأطباء الذين كشفوا على قبلك ماتوا ..
ـ ماتوا .. ؟
ـ ماتوا جميعا .. ولكن أنت جميلة .. وخسارة فى شبابك هذا أن يدركك الموت ..

وقلبت شفتيها .. ولم تنطق ودونت شيئا على الورقة .. دون أن تنظر إليه ..
وسألها :
ـ ألبس .. ؟
ـ نعم .. وتفضل .. إلى غرفة الأشعة ..

وخرج من الغرفة فوجد إبراهيم ينتظره على الباب وسأله إبراهيم لما رآه مضطربا ..
ـ انتهى الكشف ..
ـ أجل .. وأحالتنى على الأشعة ..
ـ لماذا .. ؟
ـ كتبت على الورقة .. هبوط فى القلب .. أشعة ..
ـ لا تفكر فى هذا .. سماعاتهم خاطئة فى معظم الحالات .. وسيطمئنك الرسم الكهربائى ..

ولكن مهران رغم أن الشاب أستقبل الخبر ببشاشته المعهودة وطمأنه .. فإنه لم يطمئن وظل قلقا .. فهذه هى المرة الأولى فى حياته التى يسمع فيها هذا النبأ عن قلبه .. هبوط فى القلب .. ولماذا ..

وظل يفكر فى الأمر .. وقد أحس بأنه شاخ فى ساعة وأضيف إلى عمره عشرون سنة أخرى ..

وأركبه إبراهيم عربة إلى البنسيون وركب بجواره .. وعندما فتحت له صاحبة البنسيون الباب وجدته متجهما لأول مرة ..

ورأى وهو داخل القومسيونجى يتحدث فى التليفون ..
ودخل مهران إلى غرفته وهو ساكن كالصنم ولاحظت صاحبة البنسيون وجومه فأخذت تحادثه هى وإبراهيم ويسريان عنه ..

وكان مهران بعد أن بارح مركز الكشف يفكر فى أن ينتظر فى الإسكندرية نتيجة الأشعة .. ولكنه وجد أن بقاءه فى المدينة .. سيزيده هما وقلقا ويجعله يفكر دائما فى المرض ويضخم المسألة .. فقرر أن يشغل نفسه بالعمل فى الريف وأن ينسى الموضوع .. ويستغنى عن المبلغ والأرض الجديدة .. ويسافر إلى أدفينا فى الصباح .. يركب أول سيارة ذاهبة إلى رشيد أو يأخذ القطار ..

وذهب إلى مطعم ليتعشى وهو مهموم .. فأكل كثيرا ولم يكن منذ ذهب إلى الريف يشرب الخمر .. ولكنه شرب فى هذه الليلة حتى أحس بأنه يعرق ..

وكان إبراهيم يرافقه ويسرى عنه ويكرر قوله بأنه سيتعجل نتيجة الكشف ويزف إليه البشرى بسلامة القلب من كل مرض ..

وكان الشاب صافى النفس يحب الرجل حقا .. ويذكر له صنيعه القديم .. منذ كان فى التفتيش .. فقد عينه فى وظيفته الحالية التى يعيش منها الآن .. ولولاه لما توظف قط .. ومن وقتها وهو يحفظ للرجل جميلة ويقوم له بكل الخدمات ..

وكان مهران يراه المصرى الخالص الأمين الصافى النفس والقلب .. الذى لم يلوث طباعه وأخلاقه الأجنبى الدخيل ..

وكان مهران فى كل مرة يجىء فيها إلى الإسكندرية .. يخرج للشاب من جيبه جنيهين أو ثلاثة لأنه يعرف أنه فقير ويعول والدته المريضه وأخته الصغيرة .. ولكن إبراهيم كان يرفض بإباء وشمم أية معونة ..
وكان مهران يعجب لصفات الشاب ..

* * *

وفى منتصف الليل ودع إبراهيم مهران على باب العمارة .. وصعد هو إلى البنسيون وأحس وهو صاعد بالقلق يعاوده ..

ودخل البنسيون وهو يتمنى أن يجد العجوز ساهرة ليثرثر معها .. ولكنه وجدها نائمة .. وكان القومسيونجى قد ترك غرفته وسافر منذ العصر ..

ودخل غرفته .. ولبس البيجامة وجلس على الكرسى الطويل يدخن .. وخيم على البنسيون سكون رهيب وراح الليل يمر متباطئا ثقيلا .. وأحس بحاجته إلى أن يشرب فنجانا من القهوة .. فكيف يشربه .. ؟ أيذهب إلى المطبخ ويبحث عن البن والسكر على الرف ..

وسمع صرير الباب الخارجى فى هذه اللحظة وأحس أن شخصا يتسلل إلى داخل البيت ..

وسمع أقدامها الخفيفة فى البهو .. ولم تكن إلا هى .. السيدة التى رآها بالأمس .. وهى عائدة من السينما .. أو من سهرة ليلية ..
ودخلت غرفتها .. ثم خرجت إلى المطبخ ..

وأحس بالصداع .. فمشى إلى المطبخ .. فوجد السيدة تضع شيئا على النار .. وخجل لما دخل عليها وهو لابس البيجامة ..

وقال متلطفا :
ـ أرجو المعذرة .. لإزعاجك ..
ـ العفو أتريد شيئا .. ؟
وكانت لهجتها مصرية خالصة ..
ـ فنجان من القهوة .. أحس بصداع .. وارجو أن تدلينى على مكان البن والسكر لأصنعه بنفسى ..
ـ حاضر .. تفضل استرح .. وسأحمل لك الفنجان إلى غرفتك ..
ـ شكرا .. سأظل لأحمله عنك ..
ـ المسألة بسيطة .. تفضل ..
وظلا واقفين .. فابتسمت .. كان وجهها يشع نورا ..

كانت بيضاء .. مثل الدكتورة التى كشفت عليه فى الصباح .. وأجابته بطعنة فى القلب .. ولكن هذه أطول قامة .. وأكثر أنوثة ..

وسألت برقة .. قبل أن تضع البن ..
ـ سكر .. زيادة ..
ـ مضبوط ..
ـ وأنا أيضا .. بشربها مضبوط ..
ـ هذا جميل ..

واستدارت بجانب الوجه .. ورأى ظل الأهداب .. على الخد الأيمن .. والأذن الصغيرة المغطاة بالشعر الغزير .. والبلوزة تضم الكتفين الرقيقتين والصدر النافر .. والجونلة التى انثنت مع استراحة الرجل .. وبدت استدارة الساق وفوقها التنورة الحريرية كأنما تلسعها نار الموقد فتبتعد بها .. وتقترب ..

ورأى هذا كله فى ومض سريع .. ولما حملت الصينية برقة .. ومشت أمامه .. مشى خلفها وكان يتوقع أن تضع صينية القهوة فى الصالة .. ولكنها دخلت غرفته .. ووضعت له الفنجان على النضد ..
وحيته بهزة من رأسها .. وخرجت حاملة فنجانها ..

وتناول الفنجان .. وأخذ منه رشفتين ولكنه أحس بالتعب .. وبالصداع يزداد .. فأعاد الفنجان إلى النضد وأرتمى على المقعد وهو شاحب الوجه .. وأحس كأن الغرفة تدور به .. فتحرك دون وعى وضغط على الجرس الموجود قرب السرير .. وجاءت على أثره السيدة سريعا ..
فأشار إليها بسبابته .. دون أن ينطق ..

وسألته برقة ..
ـ مالك .. ؟
ـ أحس .. بتعب شديد .. دارت بى الغرفة ..
ـ أشرب القهوة ..

وسألها وهو يدير عينيه ..
ـ أنا كنت هنا من ثلاثة شهور .. ولم أرك ..
ـ جئت بعد ذلك ..
ـ وحضرتك من إسكندرية .. ؟
ـ من المنصورة ..
ـ فسحة ..
ـ أننى موظفة فى شركة باسكندرية ..
ـ وتعملين الصبح .. وبعد الظهر ..
ـ أجل .. ولقد أحببت الإقامة عند المدام .. لأنها هادئة .. ولا يوجد عندها أحد تقريبا .. ولذلك أنا أساعدها فى المطبخ .. وتأكل معى ..
ـ إذا بقيت أياما سآكل معكما ..
ـ أهلا .. يسرنا ذلك ..

وكانت تود أن تستأذنه .. وتعود إلى غرفتها .. ولكنها رأت جبينه يعرق .. ووجهه يزداد شحوبا ..

وكان وجود امرأة معه فى غرفته وفى سكون الليل .. قد جعله يضطرب .. فعرق .. وظهر الاضطراب على وجهه ..

فسألته :
ـ أتحس بألم ..
ـ تعب .. هبوط فى القلب .. قالت لى الدكتورة اليوم هذا ..
ـ لا تصدق هذا الكلام .. إنها مخطئة .. وجهك كالورد ..
ـ مع الأسف إنى أصدقه .. إنى الآن فى فقر عقلى .. وأن خوفى من الموت ليشل جوارحى وقد فقدت كل صمام للأمان .. أشاعت بكلمتها الإضطراب فى نفسى .. واستولى علىَّ الذعر .. وأرجو أن تبقى معى قليلا حتى أنام .. أرجوك ..
وظلت بجانبه .. تحادثه ..

ودقت الساعة فى البنسيون الواحدة صباحا وكانت سعاد تنصت إلى صمت الليل .. وتحملق فى سماء الغرفة .. وفى الرجل الجالس فى سكون وسمعته يقول دون أن يحرك رأسه ..
ـ لقد أربكت نفسى بشىء لم أخلق له .. ولو أننىبدل أن أشتغل فى هذه السن بالزراعة وبعمل لا أحسنه قط وليست لى به أية دراية .. مشيت بين الفلاحين وأخذت أشرح لهم كيف يقيمون الطنابير على المساقى ويشقون القناوات والجداول والترع الصغيرة .. لكان أكرم لى ..
ـ لا تفكر فى المسألة هكذا ولا تجعلها تعذبك .. وأمامك الحياة .. لتعيش فى هدوء كما تحب وترغب ..
ـ لا أدرى هل رغبتى فى أن أعيش ستجعلنى أعيش أم لا .. إن الحياة لا تتوقف على رغبتنا أبدا ..
ومن خلال الشباك الواسع كانت سعاد ترى البحر ..

وقال الرجل وهو ينظر إليها ..
ـ لقد وجدت الحياة لكى نعيشها ، ولكنى لم أعشها قط .. كنت أشق الترع .. وأقيم الجسور والقناطر وأرسل الماء إلى الجداول والقنوات لأسقى الزرع وأبعث فى النبات الحياة .. ولكننى نسيت نفسى .. وعشت فى ضحالة مفزعة وها أنذا كما ترين .. أموت .. ولولا أن اللّه أرسلك إلىّ فى هذه الساعة .. لمت وحيدا كما تموت الكلاب ..
ـ لا تعذب نفسك .. وتفكر هكذا ..

ورأت العرق يسح منه فحنت إليه .. وغلبها التأثر .. فأخذت تمسح عرقه .. وتزداد اقترابا منه .. وبصرت بالدموع تبلل خديه .. فحنت عليه .. وأحاطها بذراعية .. وبللت الدموع صدرها والجزء الأمامى من ثيابها .. وعندما ضغط عليها بصدره ودفن رأسه فى جسمها لم تبتعد عنه ولم تبد أية حركة مقاومة خشية أن يصاب بصدمة ويموت ..
وكانت تتصور أنه لن يموت مادام فى أحضانها ..

وأحست بيده تمسح برقة على ظهرها .. وذراعيها .. وجسمه يلتصق بها أكثر وأكثر .. واستسلمت له وهى لا تحس بأيه لذة حسية .. كانت المسألة بالنسبة لها تضحية وصلت أقصى مداها ..
ونام هادئا ودثرته .. وخرجت إلى غرفتها ..

وفى الصباح .. بحث عنها فى غرفتها .. فوجدها خرجت مبكرة إلى عملها ..

وركب مثل السيارة الصغيرة التى جاءت به .. ليعود بها إلى رشيد .. ولما لم يجد ركابا غيره أستأجرها وحده ..

كان يود أن يصل عزبته قبل أن تشتد حرارة النهار .. وجلس على المقعد الخلفى مستريحا وهو يفكر فى أن يغير من أسلوب حياته ونهجه فى الحياة ..

وكان السائق ينطلق بسرعة الريح فقد كان الطريق خاليا إلا من القليل من العربات وقبل أن يبلغ أدكو .. تمهل وتلفت .. فقد خيل إليه أن الراكب يناديه لشىء أصاب السيارة ، فوقف ثم نزل ودار حول السيارة واقترب منه يسأله عن الخبر .. ووجده .. ملقيا رأسه على صدره كأنه قد نعس .. ولكن لما حركة عرف أنه نائم النومة الأخيرة النوم الذى لا حلم فيه ولاصحو بعده ..

=============================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 27/5/1961 وأعيد نشرها بمجموعة قصص محمود البدوى بعنوان " ليلة فى الطريق " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================







الأعرج فى الميناء ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

الأعرج فى الميناء
قصة
محمود البدوى

عندما ذهبت إلى السويس ، لأول مرة فى حياتى ، لم تكن الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت .. ولم يكن الإنجليز يعسكرون فى مدن القناة ، وإنما كانت الحياة هادئة جميلة فى تلك المدينة ..

وكنت أعمل صرافا فى مصلحة كبيرة .. أصرف الأجور والمرتبات لآلاف من العمال والموظفين الذين يعملون فى الميناء ..

وكان العمال يصرفون أجورهم مرتين فى الشهر ، والموظفون مرة واحدة فى اليوم الأول من الشهر ..

وكانت هذه الأيام الثلاثة من أشق الأيام .. وكان أسوأ ما فى المسألة أننى أصرف الشيك من البنك الأهلى فى سكة الزيتية .. ثم أذهب بعد ذلك إلى المحافظة لاستبدال بعض أوراق البنكنوت بالعملة الفضية والنيكل والبرونز .. ولهذا كنت أتأخر فى الصرف إلى الساعة الرابعة بعد الظهر .. وأخرج من المكتب إلى الفندق وأنا محطم تماما ، فأتمدد على الكنبة إلى الغروب .. ثم أذهب إلى مشرب من مشارب الجعة المشهورة فى هذه المدينة .. وآكل الجمبرى السويسى والسمك المشوى .. وبغير الجعة والفوسفور فى السمك كنت لا أستطيع أن أنام بعد العمل الشاق والارهاق العصبى المدمر ، وأنا أصرف ثمانية آلاف من الجنيهات وأنا واقف على قدمى .. وكان المتعب فى العملية الناس الذين يطلبون الفكة .. والفضة الجديدة .. ويرفضون بعض أوراق البنكنوت كأنها مزيفة .. ويأتى بعد الرجال .. المطلقات اللواتى يصرفن النفقة .. وكانت الواحدة منهن لا تستطيع أن تعد أكثر من عشرة .. وتحسب فى كل مرة أن نقودها ناقصة وأننى سرقتها .. ومنهن من كانت تتهم زوجها بسرقة ختمها .. وارسال واحدة بدلها ..
وكانت هذه الحوادث لا تنتهى أبدا ..

***

وكنت مع تعبى الشديد والخوف من العجز .. أجد لذة محببة فى دراسة هذه الوجوه التى تقف أمامى على شباك الصرف .. وأرى فى بعض النساء وجوها صباحا تصرخ بالفتنة فأهدأ .. وأكون كمن أعطى حقنة مورفين وهو فى أشد حالات الهياج العصبى ..

وكان عملى مستقلا عن عمل الموظفين .. ومكتبى فى غرفة تطل على البحر .. ومن نافذتها كنت أشاهد ما يجرى فى الميناء ، وأرى البواخر الضخمة وهى تعبر القناة .. منطلقة فى عرض البحر وراسية فى الحوض الجاف .. ومفرغة حمولتها على الرصيف .. داخل النطاق الجمركى .. وأرى العمال وهم يعملون ويغنون وعلى أكتافهم الأحمال الثقيلة ويجرون على السقالات والأرصفة وعرقهم يتصبب ..

وكنت أصطفى اثنين من الموظفين بالمودة .. شاهين أفندى وكان فى قسم الادارة بالمكتب وأمين أفندى وكان مهندسا فى الميناء وكان أعرج .. ويعد من أبرع المهندسين فى المصلحة على الاطلاق ..

وكنا نجلس نحن الثلاثة يوميا .. على " قهوة " فى مدينة السويس نسمر إلى منتصف الليل ثم يذهب كل واحد منا إلى بيته ..

وكان بيت أمين أفندى من طابق واحد على سكة الزيتية .. وقريبا من البحر .. وكان أمين أعزب ولا يقوم على خدمته أحد .. وكان يأكل فى الخارج .. ويعطى ملابسه " للمكوجى " .. وينظف له البيت أحد الفراشين فى المكتب من حين إلى حين .. وكان مع عرجه رياضيا ويحب المشى .. ويستحم فى البحر يوميا قبل الشروق .. فى الصيف والشتاء .. وأحسبه الوحيد الذى كان ينزل إلى البحر فى تلك المنطقة .. لأنها كانت مشهورة بحيوان " القرش " وكان يعرف هذا ولكنه لم يكن يخشى أى شىء فى الحياة ..

وكنت أسمع أنه يشتهى النساء ولكنه لم يكن يتحدث عنهن أمامى كشىء يشغل البال ..

وكنا نجلس فى مسـاء الأحد على طريق البحر ، ونرى أسـراب النسـاء الخارجـات للتنزه وكان معظمهن من الأجـانب .. ومـن الإيطاليات ..

***

وكانت تمر أمامنا أختان متشابهتان فى الجمال وطول القوام .. وكانتا أجمل من نرى من النساء ، وتبدوان متعاليتين .. فى أرستقراطية . وكنا نرى أن جمالهما الارستقراطى لاروح فيه .. ومع ذلك فقد كانتا محط أنظـار الرجال ، ولكن ما من انسان كان يجرؤ على الاقتراب منهما ..

وكان المكتب فى بور توفيـق .. والفندق الذى أقيم فيه فى السويس .. وفى شـارع السوق الرئيس .. وكنت أضيق ذرعا بالضجيج ، والحركة فى الشارع ، وركوب القطار كل يوم .. وأود لو أعثر على سكن فى بور توفيق .. ولكنها كانت ضاحية بنتها الشركة لموظفيها .. ومساكن الأهالى فيها قليلة .. وان وجدت بيتا صغيرا .. فليس معى عفش .. وتأثيث بيت حتى على أبسط صورة ليس بالأمر الهين على شاب مثلى راتبه صغير .. وكان جلال وهو فراش الخزينة ، والذى يرافقنى وأنا أحمل الصرة ، يعرف المشقة التى أعانيها من السكن فى السويس .. فأخذ يسعى منذ قدومى ليجد لى غرفة مفروشة ببور توفيق .. وأخيرا دلنى على غرفة عند سيدة أجنبية تسكن فى طرف هذه الضاحية .. وأوصانى وأنا ذاهب إليها أن أكلمها بلغة أجنبية حتى تتصور أننى أجنبى .. لأنها لا تسكن المصريين .. ومتى أدركت الحقيقة بعد أسبوعين .. تكون قد خبرت طباعى واطمأنت إلىَّ ..
وذهبت على هذا الاعتبار وقرعت بابها ..

وفتحت لى الباب .. نصف فتحة ، وكانت خارجة من المطبخ .. وترتدى مريلة على ثوب بنى قصير .. وكانت غير متزينة .. ولكنها تبدو مشرقة .. وقلت لها بالفرنسية عن بغيتى ..
فقالت :
ـ تفضل ..
وأرتنى الغرفة .. وكانت فوق مستوى أحلامى ..

ولكننى رأيت أن أستعمل المكر الريفى حتى لا أظهر لهفتى على الغرفة ..
ـ هل تدخلها الشمس ..؟
ـ شمس .. اننا فى الصيف ..!
ـ ولكننى أحـب أن أنام فى غرفـة تدخلها الشمس .. صيفا وشتاء ..
ـ تعال فى الساعة الرابعة لترى الشمس بعينيك تملأ الغرفة ..
ـ سأجىء ..

وقالت وأنا فى الطريق إلى الباب :
ـ من الذى دلك على الغرفة ..؟
ـ مسيو .. جورج ..
ولا أدرى لماذا اخترت هـذا الاسـم .. وخـفت أن تسألنى ..
" جورج من ..؟ "
ولكنها انقذتنى من الحرج .. بقولها :
ـ أتجلس عنده ..؟
ـ أجل ..

فأدركت أنه حلوانى أو صاحب مشرب فى السويس ..
وأطلت برأسها من النافذة ، وأنا أجتاز سور بيتها .. وقالت :
ـ ستأتى فى الساعة الرابعة ..
ـ بكل تأكيد ..
وفى مساء اليوم نفسه انتقلت إلى الغرفة ..

***

وكانت " مارينا " .. أرملة ، ترك لها زوجها فتاة فى التاسـعة من عمرهـا وطفلا فى الرابعـة .. وكانت الفتاة فى مدرسـة ايطاليــة بالسويس ..

***

ومر شهر .. ولم أكن أعير هذه المرأة .. التفاتة .. ولا كانت هى ..

ولكننى كنت قد غيرت طريقة حياتى ، فأصبحت لا أذهب إلى السويس إلا مرة أو مرتين فى الأسبوع ..

وكان " أمين " يجىء إلى بيتى .. وأخرج معه إلى الميناء .. وكان يلاحظ لانشات المصلحة وبواخرها .. والعمال فيها .. وكان المحرك للميناء .. والقوة الفعالة فيها .. ويعمل دون صراخ أو ضجيج .. وكانوا يأتون به فى أيام راحته .. ويوقظونه من نومه .. لأنه الإنسان الوحيد الذى يستطيع أن يحرك هذه الآلات الكهنة .. ويديرها وينفخ فيها من روحه ..

وكان لا يحب القبطان ولا وكيله .. ويكره كل إنسان يجلس إلى مكتب أو بين جدران أربعة .. ويقول عنهم أنهم جهلاء .. لا يعرفون الحياة لأنهم لايعيشونها .. وكان يغضب أشد الغضب عندما يراهم يخصمون يوما من بحار ، أو عامل انقطع عن العمل لمرضه .. ويقول ثائرا :
" هاتوه أمامكم لتروه .. واعرفوا حاله .. بدلا من تقرير مصير الناس على الورق " ..

ولم تكن المنازعات تنتهى بينه وبين الموظفين فى المكتب أبدا .. لأنهما كانا قوتين تتصارعان .. كان هو يعمل للخير والحياة .. وهم للروتين والعفن ..

وكان يسكر مثلى ، ولكنه لم يكن يسبب الأذى لأى إنسان .. وكان يدافع عن العمال ويتحمل كل ضروب العنت فى سبيلهم .. وكنت أصطفيه لأنه كان إنسانا ، وكان رياضيا .. يحب المشى والرياضة مثلى .. فكنا نقطع الطريق من بور توفيق إلى السويس سيرا على الأقدام .. وفى بعض الحالات نواصل السير إلى الأربعين ..

وكان يقرأ .. ويتحدث عن الأدب ، وأرى فى يده أكثر من كتاب لبروست وزولا .. وكنت أسأله :
ـ لماذا لايوجد أديب فى الشرق مثل جوركى .. أو دكنز .. أو همنجواى ..؟
ـ لأن الأدب عندنا ينفصل عن الحياة ..
ـ أليس للاستعمار .. دخل فى هذا ..؟
ـ ان الأدب يزدهر وينمو .. حيث القلق والاضطهاد .. ولكنا لا نعيش فى الحياة ولا نصل إلى أعماقها ..
ـ ألا نأمل فى المستقبل ..؟
ـ طبعا .. فمع كل المساوىء التى تراها فى الحياة والفن .. فنحن نتقدم .. ولكننا نعقد الحياة .. ونشوه وجهها الجميل .. وهؤلاء العمال الذين تراهم فى الميناء يمكن أن يوجد من بينهم مائة قارىء يقرأون ويسمعون الموسيقى على أحسن وجه .. لو هذبت مداركهم .. ورفعت مستواهم .. وجـعلت لهم فى هذا المكان قاعة للمطالعة ومثلها للموسيقى .. أنهم لا ينقصهم شىء .. عن أى إنسان أوربى ولكننا نشوه الحياة عندنا وننقص من قدرنا متعمدين ..

وقد رنت كلماته فى أذنى ، وحاولت من هذه اللحظة أن أعيش فى الحياة ..

***

وكان يجىء إلى بيتى فى يومى الخميس والأحد .. وكنا فى هذين اليومين نسهر ونسكر .. وكانت مدام " مارينا " تسهر معنا .. ونتحدث فى كل الشئون .. ولم أكن أدرى أنشأ بينى وبينها بعد هذه الشهور السبعة ما يشبه الحب .. ولكننى كنت أرتجف وأنا أراها كاشفة عن مفاتنها أمامى .. وكان من عادتها أن تغلق نوافذ البيت فى ساعة القيلولة ، وتسدل عليها الستائر ، وتلبس قميصا أبيض قصيرا ، كأنه مقطوع بمشرط فى نصف دائرة كاملة .. أو كأنها خلعته فى الجانب الأيمن من الكتف ، ونسيت الجانب الأيسر فتركته على حاله .. ثم تنساب فى البيت وهى على هذه الصورة وخصرها مائل إلى جانب .. وتوقظنى من أحلامى وهى تنحنى أمامى وتأخذ سيجارة من علبتى .. وتشعلها .. وتنفث دخانها .. وأنشق عبير أنفاسها .. وعندما رأتنى أقرأ كثيرا .. وأحبس نفسى فى الغرفة .. قالت لى وهى باسمة فى أسى :
ـ لماذا تتعب نفسك فى الدرس يا مسيو مراد .. هل تعد رسالة للدكتوراه ..
ـ اننى أقرأ لأتسلى ..
ـ أخرج إلى الشارع ، لترى الناس وتتمتع بالحياة .. لا تضيع شبابك هكذا ..

وأمسكت بيدى مرة .. وكنا ندفع السفرة إلى جانب الحائط ..
ـ أرأيت .. أثر الكتب على جسمك .. انك ضعيف محطم ..
وكأنما لسعتنى بسوط وعلا وجهى الاصفرار ..

وذات يوم من أيام الصرف للعمـال .. تأخرت فى استبـدال العملة .. الفضة فى المحافظة ..

وتعطلت بنا السـيارة فى الطريق إلى بور توفيـق فزادت الأمر سوءا .. وعندما وصلت إلى باب المكتب فى الساعة الثانية بعد الظهر .. كان آلاف العمال يقفون فى الشارع .. ويسدون علىَّ الطريق .. وفى عيونهم التذمر والقلق ..

ودخلت المكتب وأغلقت ورائى الباب .. كان لابد من عد الفضة قبل البدء فى الصرف .. وأخذ العمال يتصايحون فى الخارج .. ثم أخذوا يقرعون الباب بعنف وازداد الاضطراب والصياح .. وصحت فيهم وتوقفت عن العمل .. وزاد هياجهم .. وأفلت الزمام من يدى .. ومن يد القبطان .. وكل رجل مسئول فى الميناء ..

وهاجوا ودفعوا الباب بالقوة ودخلوا .. وكانت النقود مبعثرة على الطاولة .. وزاغت عيونهم .. واصفر وجهى ، وتقدموا فى هياج نحو الطاولة ..

وكنت واقفا وحدى .. وبجانبى الساعى .. ونحن نكاد نختنق ونتحطم ..

وفى تلك اللحظة الحاسمة .. سمعت صوت " أمين " خلف هذه الجموع .. ونظروا جميعا إلى الخلف ، وتسمروا فى أماكنهم .. ودخل يشق الصفوف .. وانقطع كل صياح .. وعاد السكون والنظام .. ووقف بجانبى وأنا أصرف لهذه الجموع ..

***

وسهرنا فى مساء الأحد مع " مارينا " كعادتنا .. وسكرنا ..

وكان من عادتها أن تجلس معنا بعد أن ينام طفلها ، وتذهب ابنتها إلى سريرها .. وتغلق عليها النور ..

ثم تقبل علينـا رشيقـة ضاحكة .. وقد ارتدت رداء بسيطا يبرز محاسنها ، ويزيدها جمالا ..

وكانت تدير الجرامافون وتدور علينا بالكؤوس .. وهى نشوى طروب .. ولما انتهت السهرة ونهض أمين ليذهب ، رأيت أن أرافقه إلى المحطة .. فقالت مارينا :
ـ سأخرج معكما ..

وخرجنا ثلاثتنا إلى الطريق .. وأحسست بالصفاء وبالسرور وبجمال الضاحية .. وجمال الطبيعة من حولى ، وجمال القمر ..

ولما أركبنا أمين القطار ، وعدت معها فى الشارع الذى على جانبيه الأشجار ، كنا وحدنا .. ولم نصادف إنسانا فى الطريق .. وكنا نسير متمهلين ..

وسألتها وقد شعرت بضربات قلبى تشتد :
ـ هل أنت مستريحة لوجودى فى بيتك ..؟
ـ طبعا .. انك فى غاية الأدب .. وأنا أستفيد منك ..
ـ كيف ..؟
ـ ايجار الغرفة .. والطعام ..

ولكن فائدتى أنا ليست مادية كما ذكرت .. فأنا أشعر معك بسعادة روحية .. سعادة من يحب ..
ـ يحب ..؟!
ـ أجل .. اننى أحب ..
ـ تحب من ..؟
ـ أنت ..
ـ هل أنت سكران ..؟!
ـ لماذا ..؟
ـ لأنك بدأت تهذى ..
وظهر على وجهها الغضب ..
ـ ألا أصلح للحب ..؟
وهزت كتفيها .. ولم تنبس ..

شعرت بمثل الدوامة تلفنى ، وبمثل موج البحر الذى بجوارى يدفعنى إلى بعيد ..
ودخلنا البيت صامتين ..

***

وكأنها شعرت بالخنجر الذى غرسته فى قلبى .. فقد أخذت تعاملنى بلطف ودون كلفة كأننى فرد من الأسرة .. وتطلب منى أن أساعد بنتها فى دروس المدرسة .. وتشركنى معها فى نقل الأثاث .. من غرفة إلى غرفة .. وفى تنسيق المائدة .. وتطلب منى أن أختار لون الطعام الذى أحبه .. ولكننى رغم هذا لم أتقدم نحوها بأية خطوة جديدة ..

***

وفى يوم الأحد التالى جاء " أمين " وسهر معنا كالعادة .. وكنا نتعشى عشاء بسيطا فى الصالة ونشرب النبيذ الإيطالى .. ونستمع إلى الموسيقى .. ولاحظت على المائدة .. وكانت " مارينا " تجلس بيننا .. أن يدها لامست يد " أمين " أكثر من مرة .. ولم أكن أعرف هذه الحركة جاءت منها عفوا ، أم متعمدة ..

ولكن لم يظهر على وجه " أمين " أنه أحس بيدها ، أو لاحظ منها هذه الحركة ، وعندما نهضنا عن المائدة وجلسنا .. ندخن فى الفراندة .. ذهبت هى إلى المطبخ لتصنع قهوة ومشيت إلى غرفتى لأجىء بعلبة السجائر .. ورأيتها وأنا راجع .. مقتربة منه وهو يدفعها عنه بلطف ..

وتأخرنا فى السهر ، ولما نهض أمين ليذهب إلى السويس .. خفنا أن يفوته آخر قطار .. فعرضت عليه أن يبيت .. وبعد الاصرار .. قبل ونام فى غرفة وحده ..
وذهب كل منا إلى فراشه ..

وفى آخر الليل تنبهت على حركة .. وسمعت صوتها .. وكانت تهمس فنهضت ومشيت نحو مصدر الصوت .. فرأيتها بجانب فراش " أمين " .. وهى حافية وبقميص واحد وصدرها كله عار .. وكانت تلتصق به ، وهو يدفعها عنـه بقوة ، ولكنهـا كانت تعاود الكرة ..
فغضب ودفعها بعيدا .. وأغلق عليه الباب بالمفتاح ..
وفى الصباح نهض قبل أن أصحو وذهب ..

***

ولم يأت إلى بيت مدام " مارينا " بعد هذه الليلة .. وقال لى معللا انقطاعه بأن بور توفيق هادئة .. أكثر من اللازم ولا تجعله يحس بالحياة فى الليل .. ويجب أن نغيرها .. فاخترنا مكانا آخر نمضى فيه السهرة ..
وسألتنى المدام ذات مرة :
ـ لماذا لا يأتى صاحبك الأعرج ..؟
ـ انه يتعب من المشوار ..
ـ ما الذى يعجبك فيه حتى تصاحبه .. ألم تلاحظ مشيته وهندامه وشكله القبيح ..؟
ـ ولكن النساء تحبه رغم هذا ..
ـ ان هذا أعجب شىء سمعته .. لابد أن تكن عاهرات ..
ـ وإذا لم تكن عاهرة ..
ـ تكون مخبولة .. فإن أى امرأة بعقلها تبصق على وجهه إذا اقترب منها ..

وكنت أعرف أنه جرح كبرياءها فى الصميم ، فلم أعجب وأنا أسمع منها هذا الكلام ..

***

وكنت أذهب إلى بيت أمين بعد الظهر .. إذا ما كانت لى حاجة فى السويس .. أو مررت على البنك ..

وذات مساء فتح شراعة الباب ولم تكن هذه عادته .. ولما رآنى ظهر على وجهه الاضطراب ، رغم أن وجهه لايعبر عن انفعاله .. وكان من عادتى أن أدخل توا إلى غرفته ..

ولكنه ابتدرنى بقوله وهو يشير إلى غرفة الجلوس :
ـ اقعد هنا يامراد .. الأوده ملخبطة .. وفيها بق .. الحمار ماجاش ينضف .. حالبس حالا ..

ومضت دقيقة وسمعت همسا ، وصوت أنثى ولغة أجنبية لا أعرفها .. ثم تحرك ظل امرأة فى الصالة وخرجت بخفة .. ولما أصبحت فى الطريق .. نهضت ونظرت من النافذة .. فوجدتها كبرى الأختين الارستقراطيتين اللتين كانت تتنزهان أمامنا فى طريق الزيتية ، ولا يجرؤ إنسان على الاقتراب منهما ..

***

وحدث عصر يوم من أيام الخريف أن جاء شاهين إلى البيت وهو مضطرب .. وطلب من " مارينا " أن توقظنى من النوم ..

وأخبرنى وهو يبـكى .. أن أمين سـقط وهو يركب القطار وهو يتحرك .. فى محطة بور توفيق ..

***

وعندما نقلناه إلى المستشفى .. كان أشق الأشياء على نفسه أن يراه الناس محمولا على عربة ذات عجلات ..

وقرر الطبيب اجراء عملية جراحية له .. ولكنه انتهى بعد نصف الليل قبل أن تجرى العملية .. ولما عدت إلى البيت .. كانت " مارينا " لاتزال ساهرة وفى عينيها بقايا من دمع ..

====================================
نشرت القصة بمجلة الجيل 8/8/1955 وفى المجموعة التى تحمل اسم القصة وفى مجموعة " قصص من القنال " ـ مكتبة مصر
===================
=================