الرجل الأعزب
قصة محمود البدوى
فى وقت العصارى .. وفى بداية الصيف كانت سيارة أجرة صغيرة تسرع على الطريق الزراعى المرصوف .. الملاصق لخط سكة حديد رشيد ..
وكان الطريق يبدو خاليا الا من عربات النقل التى تمر من حين إلى حين محملة بالأخشاب .. والدريس والأسماك .. وفناطيس البترول ..
وكانت الرمال البيضاء تلتمع تحت الشمس .. تبدو للراكبين فى السيارة كبحر من اللجين ..
وعند أدكو تمهلت السيارة .. واشتم المسافرون الثلاثة أنفاس البحيرة وشاهدوا زوارق الصيادين طاوية أشرعتها وواقفة فى صف طويل قريبا من الساحل كأنها فرغت من كد النهار وتعبه ..
وعندما خرجت السيارة من حدود أدكو أنطلقت كالسهم وركز السائق كل حواسه على الطريق وأطبق فمه .. وكذا جميع الراكبين معه .. فلم يتبادلوا كلمة واحدة ..
وأخذت النسمات الرطبة تصافح وجوههم فانتعشوا وأخذوا يتابعون مزارع الأرز والقمح والبرسيم التى يمرون بها فى الطريق ..
ولم تكن تجمعهم أية صلة غير صلة الركوب من رشيد فى عربة واحدة ..
وكان السيد / مهران المفتش السابق للرى أطول الراكبين فى السيارة قامة وأكثرهم هيبة ..
كان ذاهبا إلى الإسكندرية لمهمة قصيرة تتصل بمعاشه .. إذ سيستبدل جزءا منه بمبلغ من المال يدفع منه أقساط الأرض التى أشتراها بالتقسيط .. وقد أشتغل بالأرض وأخذ يفلحها ويزرعها ..
وانقطع منذ خرج من الوظيفة لشئون الزراعة.. وركبته الديون والهموم بسبب جهله وعدم خبرته .. ولكنه ظل فى الطريق .. يجاهد بكل ما يملك من حول ويشترى قطعة الأرض الجيدة لتكون عوضا له عن الرديئة التى أستنزفت ماله وجهده ..
وكان أعزب وأخوه الأكبر إسماعيل عاش ومات أعزب .. وورثت معاشه الحكومة .. وكان المصير نفسه يعذبه ويجعله يفكر دوما فى أن يستبدل معاشه كل سنتين أو ثلاث حتى لا يتبقى منه شىء فى آخر أيامه ترثه الحكومة ..
وكان السيد مهران فى الثالثة والستين من عمره ولكنه يبدو أصغر من سنه إذ كان طويلا قوى الجسم .. متين التركيب .. وكان كل من يراه وهو يمشى منتصب القامة منتظم الخطو يتصور إنه تخرج من كلية عسكرية ..
وكان فى خلال حياته كموظف قد ذهب إلى كل مكان حتى تفتيش الرى بالسودان قضى فيه سنتين من عمره ..
وأكسبه هذا التنقل صحة بادية .. إذ لم يكن يشكو من أية علة ولم يذهب إلى الطبيب إلا فيما ندر ..
وكان يبدو شابا فى كل حركاته .. فى مشيته .. وفى نشاطه .. لذلك لم يعر باله إلى الكشف الطبى .. الذى سيتقدم إليه فى صباح الغد .. لأنه كشف قبل ذلك مرتين .. وكانت النتيجة مرضية ..
وكانت السيارة الصغيرة تسرع على الطريق الضيق المرصوف .. وأنفاس البحر البعيد عن الركاب جدا بدت تدخل أنوفهم .. وكانوا جالسين فى صمت .. وكل راكب منهم يفكر فى خواطره وسوانح فكره .. وفيما هو ذاهب إليه ..
وكان السيد مهران يعتزم أن يقضى ليلة واحدة فى الإسكندرية وبعد الكشف الطبى يرجع توا إلى عزبته .. إذ لم يكن يحب أن يمضى أياما فى الإسكندرية .. ويترك شئونه وزراعة الأرز والقمح للريح ..
وكانت الطريق تدور وتلتوى أمام بصره وهو ينظر إلى زراعات القمح ويقارنها بزراعته .. وكان شغفه بالزراعة قد جعله يهمل هندامه فبدت بدلته غير مكوية ..
وكانت السيارة وهى تقترب من المعمورة قد بدت تدخل مع أنفاس البحر .. وبدا البحر على الجانب الأيمن من الطريق .. ساكن الموج جميلا كالعروس الضاحكة ومياهه الزرقاء تبدو كصفحة السماء ..
وعلى حين غرة اعترضت سيرهم سيارة كبيرة قادمة من الطريق المضاد وكادت تهشم سيارتهم وتسحقهم لولا أن السائق أنحرف بهم فى براعة وسرعة بعيدا عن الخطر الداهم ..
وأغمى على أحد الركاب من هول المفاجأة .. وأخذ السيد مهران .. والراكب الآخر يسعفانه حتى أستفاق ..
واستأنفوا سيرهم وأخذ السائق الذى كان ملجما لسانه طول الطريق .. يسب ويلعن سائقى سيارات النقل .. وحاملات البترول .. واقتربوا من المنتزه بحدائقه وأشجاره العالية ..
وعندما دخلت السيارة المدينة كانت المصابيح تلمع فى الشوارع وبدت أنوار السيارات تسطع فى طريق الحرية ..
وكان مهران قد زار الإسكندرية منذ ثلاثة شهور ولكنها لم تبد فى نظره جميلة كما هى الساعة .. كان الشارع الواسع بهيجا بعماراته وفيللاته .. والأشجار العالية .. تزينه .. وتزيده روعة ..
وشاهد من نافذة السيارة فيللا صغيرة من طابقين بطراز عربى ، ولها حديقة مزهرة فتمنى أن يقيم لنفسه مثلها .. فى منطقة سموحة أو مصطفى باشا .. حيث الهواء والهدوء والجمال .. ويجعلها استراحة .. ويستريح فيها بعد كده وتعبه فى الأرض ..
وبدت المدينة فى نظره جميلة قبل أن تزدحم بالمصيفين .. وتذهب نضرتها فى زحمة الناس ..
وعندما نزل من السيارة فى محطة الرمل وجد السيد إبراهيم فى انتظاره.. وهو شاب نحيل .. وكان السيد مهران قد أدى له خدمة فى التفتيش ..
وأصبح مهران كلما قدم الإسكندرية يسرع إبراهيم إليه ليساعده ويقوم نيابة عنه بكل أعماله .. فى إخلاص نادر ..
وتناول من مهران حقيبته واتجها إلى البنسيون الذى اعتاد مهران أن ينزل فيه كلما هبط المدينة .. ويقع فى شارع صغير وراء فندق سيسل وتديره سيدة أجنبية عجوز ..
وكان مهران يحب النزول فيه لهدوئه ورخصه فهو يدفع 35 قرشا فقط مع تناول الأفطار ويحس وهو يقيم فيه كأنه فى بيته ..
وكانت العجوز تعيش فى غرفة من البنسيون وتؤجر الثلاث الباقية .. ونادرا ما تشغل الغرف كلها فى وقت واحد ..
وعندما دخل عليها فى هذه الليلة .. شعر وهو جالس فى الصالة .. بوجود ساكن فى الغرفة المقابلة لغرفته وكان قوموسيونجيا .. يتجول ثم يرجع إلى البنسيون ليقضى ليلة أو ليلتين .. ثم يستأنف تجواله فى البلاد ..
واغتسل مهران ونزل مع إبراهيم ليتعشى ويتجول فى المدينة قبل أن ينام ..
وتعشى وحده فقد رفض إبراهيم بإباء أن يشاركه الطعام وجلسا على قهوة رويال .. ثم تركه إبراهيم .. بعد أن وعده بأنه سينتظره فى الصباح الباكر على باب المركز الطبى ..
ورجع مهران إلى البنسيون .. وفتح الباب بالمفتاح الذى أعطته له المدام .. فلم يجدها ساهرة ووجد سيدة تجلس فى الصالة وحدها .. ولما مر بها حياها ودخل إلى غرفته ولكنه أبقى الباب مفتوحا ..
فرأى هذه السيدة من مكانه وهى تتحرك فى الصالة .. وكانت شابة بيضاء طويلة .. لفاء العود .. سوداء الشعر .. وعلى خدها غمازتان مع أنف دقيق وشفتين فى لون الكريز .. وبصر بها تتحرك فى الصالة وتدخل غرفتها ..
ونام مهران فى فراشه .. وهو يحس بتعب المشوار الذى قطعه بالسيارة .. ولكنه لم ينم نوما عميقا .. كان قلقا .. ويود أن ينهى الكشف الطبى سريعا ويعود إلى زراعته ..
وفى الصباح .. نظر وهو خارج إلى أبواب البنسيون المغلقة .. ولعله كان يبحث عن المرأة التى بصر بها فى الليل ..
* * *
وكانت ردهة المركز الطبى ممتلئة بمن جاءوا للكشف .. عندما دخل مهران من الباب .. وقابله إبراهيم على الفور ببشاشته ..
وقال له :
ـ ورق .. سيادتكم جاهز .. وستدخل حالا ..
ودخل مهران حجرة الكشف .. فوجد سيدة ترتدى معطفا أبيض فظنها ممرضة فبحث بعينيه كأنه يود أن يسألها أين الطبيب ثم عرف بعد لحظات لما تحركت نحوه يالسماعة أنها الطبيبة التى ستكشف عليه ..
وكانت قد لاحظت نظراته فظهر على وجهها الامتعاض ولم تستطع أن تكتم أنفعالها .. وكانت خمرية اللون متوسطة الطول .. أقرب إلى السمنة .. ووجهها مستدير .. حلو ..
كان جمالها فى الواقع غريبا عنه .. فى هذا الجو .. فقد رأى من قبل حكيمات وممرضات فى المستشفيات وعيادات الأطباء ولكنه لم ير طبيبة بمثل هذه الفتنة ..
ووضعت السماعة على قلبه .. وقالت له .. وهى تنظر إلى قامته كأنها تقيس طوله ..
ـ تنفس ..
فحرك صدره ..
ـ كمان ..
وفتحت شفتيها ثم زمتهما .. وانطبقت أهدابها ..
فقال لها مهران وهو ينظر إلى الخرطوم المتدلى وفى طرفه السماعة ..
ـ هذه هى المرة الرابعة التى أكشف فيها عن صدرى لطبيب ..
ـ وكانت كلها للاستبدال .. ؟
ـ للإستبدال والإجازات المرضية ..
ـ ولغير هذا ..
ـ لم يحدث ..
ـ لم تمرض فى حياتك ..
ـ ابدا وكل الأطباء الذين كشفوا على قبلك ماتوا ..
ـ ماتوا .. ؟
ـ ماتوا جميعا .. ولكن أنت جميلة .. وخسارة فى شبابك هذا أن يدركك الموت ..
وقلبت شفتيها .. ولم تنطق ودونت شيئا على الورقة .. دون أن تنظر إليه ..
وسألها :
ـ ألبس .. ؟
ـ نعم .. وتفضل .. إلى غرفة الأشعة ..
وخرج من الغرفة فوجد إبراهيم ينتظره على الباب وسأله إبراهيم لما رآه مضطربا ..
ـ انتهى الكشف ..
ـ أجل .. وأحالتنى على الأشعة ..
ـ لماذا .. ؟
ـ كتبت على الورقة .. هبوط فى القلب .. أشعة ..
ـ لا تفكر فى هذا .. سماعاتهم خاطئة فى معظم الحالات .. وسيطمئنك الرسم الكهربائى ..
ولكن مهران رغم أن الشاب أستقبل الخبر ببشاشته المعهودة وطمأنه .. فإنه لم يطمئن وظل قلقا .. فهذه هى المرة الأولى فى حياته التى يسمع فيها هذا النبأ عن قلبه .. هبوط فى القلب .. ولماذا ..
وظل يفكر فى الأمر .. وقد أحس بأنه شاخ فى ساعة وأضيف إلى عمره عشرون سنة أخرى ..
وأركبه إبراهيم عربة إلى البنسيون وركب بجواره .. وعندما فتحت له صاحبة البنسيون الباب وجدته متجهما لأول مرة ..
ورأى وهو داخل القومسيونجى يتحدث فى التليفون ..
ودخل مهران إلى غرفته وهو ساكن كالصنم ولاحظت صاحبة البنسيون وجومه فأخذت تحادثه هى وإبراهيم ويسريان عنه ..
وكان مهران بعد أن بارح مركز الكشف يفكر فى أن ينتظر فى الإسكندرية نتيجة الأشعة .. ولكنه وجد أن بقاءه فى المدينة .. سيزيده هما وقلقا ويجعله يفكر دائما فى المرض ويضخم المسألة .. فقرر أن يشغل نفسه بالعمل فى الريف وأن ينسى الموضوع .. ويستغنى عن المبلغ والأرض الجديدة .. ويسافر إلى أدفينا فى الصباح .. يركب أول سيارة ذاهبة إلى رشيد أو يأخذ القطار ..
وذهب إلى مطعم ليتعشى وهو مهموم .. فأكل كثيرا ولم يكن منذ ذهب إلى الريف يشرب الخمر .. ولكنه شرب فى هذه الليلة حتى أحس بأنه يعرق ..
وكان إبراهيم يرافقه ويسرى عنه ويكرر قوله بأنه سيتعجل نتيجة الكشف ويزف إليه البشرى بسلامة القلب من كل مرض ..
وكان الشاب صافى النفس يحب الرجل حقا .. ويذكر له صنيعه القديم .. منذ كان فى التفتيش .. فقد عينه فى وظيفته الحالية التى يعيش منها الآن .. ولولاه لما توظف قط .. ومن وقتها وهو يحفظ للرجل جميلة ويقوم له بكل الخدمات ..
وكان مهران يراه المصرى الخالص الأمين الصافى النفس والقلب .. الذى لم يلوث طباعه وأخلاقه الأجنبى الدخيل ..
وكان مهران فى كل مرة يجىء فيها إلى الإسكندرية .. يخرج للشاب من جيبه جنيهين أو ثلاثة لأنه يعرف أنه فقير ويعول والدته المريضه وأخته الصغيرة .. ولكن إبراهيم كان يرفض بإباء وشمم أية معونة ..
وكان مهران يعجب لصفات الشاب ..
* * *
وفى منتصف الليل ودع إبراهيم مهران على باب العمارة .. وصعد هو إلى البنسيون وأحس وهو صاعد بالقلق يعاوده ..
ودخل البنسيون وهو يتمنى أن يجد العجوز ساهرة ليثرثر معها .. ولكنه وجدها نائمة .. وكان القومسيونجى قد ترك غرفته وسافر منذ العصر ..
ودخل غرفته .. ولبس البيجامة وجلس على الكرسى الطويل يدخن .. وخيم على البنسيون سكون رهيب وراح الليل يمر متباطئا ثقيلا .. وأحس بحاجته إلى أن يشرب فنجانا من القهوة .. فكيف يشربه .. ؟ أيذهب إلى المطبخ ويبحث عن البن والسكر على الرف ..
وسمع صرير الباب الخارجى فى هذه اللحظة وأحس أن شخصا يتسلل إلى داخل البيت ..
وسمع أقدامها الخفيفة فى البهو .. ولم تكن إلا هى .. السيدة التى رآها بالأمس .. وهى عائدة من السينما .. أو من سهرة ليلية ..
ودخلت غرفتها .. ثم خرجت إلى المطبخ ..
وأحس بالصداع .. فمشى إلى المطبخ .. فوجد السيدة تضع شيئا على النار .. وخجل لما دخل عليها وهو لابس البيجامة ..
وقال متلطفا :
ـ أرجو المعذرة .. لإزعاجك ..
ـ العفو أتريد شيئا .. ؟
وكانت لهجتها مصرية خالصة ..
ـ فنجان من القهوة .. أحس بصداع .. وارجو أن تدلينى على مكان البن والسكر لأصنعه بنفسى ..
ـ حاضر .. تفضل استرح .. وسأحمل لك الفنجان إلى غرفتك ..
ـ شكرا .. سأظل لأحمله عنك ..
ـ المسألة بسيطة .. تفضل ..
وظلا واقفين .. فابتسمت .. كان وجهها يشع نورا ..
كانت بيضاء .. مثل الدكتورة التى كشفت عليه فى الصباح .. وأجابته بطعنة فى القلب .. ولكن هذه أطول قامة .. وأكثر أنوثة ..
وسألت برقة .. قبل أن تضع البن ..
ـ سكر .. زيادة ..
ـ مضبوط ..
ـ وأنا أيضا .. بشربها مضبوط ..
ـ هذا جميل ..
واستدارت بجانب الوجه .. ورأى ظل الأهداب .. على الخد الأيمن .. والأذن الصغيرة المغطاة بالشعر الغزير .. والبلوزة تضم الكتفين الرقيقتين والصدر النافر .. والجونلة التى انثنت مع استراحة الرجل .. وبدت استدارة الساق وفوقها التنورة الحريرية كأنما تلسعها نار الموقد فتبتعد بها .. وتقترب ..
ورأى هذا كله فى ومض سريع .. ولما حملت الصينية برقة .. ومشت أمامه .. مشى خلفها وكان يتوقع أن تضع صينية القهوة فى الصالة .. ولكنها دخلت غرفته .. ووضعت له الفنجان على النضد ..
وحيته بهزة من رأسها .. وخرجت حاملة فنجانها ..
وتناول الفنجان .. وأخذ منه رشفتين ولكنه أحس بالتعب .. وبالصداع يزداد .. فأعاد الفنجان إلى النضد وأرتمى على المقعد وهو شاحب الوجه .. وأحس كأن الغرفة تدور به .. فتحرك دون وعى وضغط على الجرس الموجود قرب السرير .. وجاءت على أثره السيدة سريعا ..
فأشار إليها بسبابته .. دون أن ينطق ..
وسألته برقة ..
ـ مالك .. ؟
ـ أحس .. بتعب شديد .. دارت بى الغرفة ..
ـ أشرب القهوة ..
وسألها وهو يدير عينيه ..
ـ أنا كنت هنا من ثلاثة شهور .. ولم أرك ..
ـ جئت بعد ذلك ..
ـ وحضرتك من إسكندرية .. ؟
ـ من المنصورة ..
ـ فسحة ..
ـ أننى موظفة فى شركة باسكندرية ..
ـ وتعملين الصبح .. وبعد الظهر ..
ـ أجل .. ولقد أحببت الإقامة عند المدام .. لأنها هادئة .. ولا يوجد عندها أحد تقريبا .. ولذلك أنا أساعدها فى المطبخ .. وتأكل معى ..
ـ إذا بقيت أياما سآكل معكما ..
ـ أهلا .. يسرنا ذلك ..
وكانت تود أن تستأذنه .. وتعود إلى غرفتها .. ولكنها رأت جبينه يعرق .. ووجهه يزداد شحوبا ..
وكان وجود امرأة معه فى غرفته وفى سكون الليل .. قد جعله يضطرب .. فعرق .. وظهر الاضطراب على وجهه ..
فسألته :
ـ أتحس بألم ..
ـ تعب .. هبوط فى القلب .. قالت لى الدكتورة اليوم هذا ..
ـ لا تصدق هذا الكلام .. إنها مخطئة .. وجهك كالورد ..
ـ مع الأسف إنى أصدقه .. إنى الآن فى فقر عقلى .. وأن خوفى من الموت ليشل جوارحى وقد فقدت كل صمام للأمان .. أشاعت بكلمتها الإضطراب فى نفسى .. واستولى علىَّ الذعر .. وأرجو أن تبقى معى قليلا حتى أنام .. أرجوك ..
وظلت بجانبه .. تحادثه ..
ودقت الساعة فى البنسيون الواحدة صباحا وكانت سعاد تنصت إلى صمت الليل .. وتحملق فى سماء الغرفة .. وفى الرجل الجالس فى سكون وسمعته يقول دون أن يحرك رأسه ..
ـ لقد أربكت نفسى بشىء لم أخلق له .. ولو أننىبدل أن أشتغل فى هذه السن بالزراعة وبعمل لا أحسنه قط وليست لى به أية دراية .. مشيت بين الفلاحين وأخذت أشرح لهم كيف يقيمون الطنابير على المساقى ويشقون القناوات والجداول والترع الصغيرة .. لكان أكرم لى ..
ـ لا تفكر فى المسألة هكذا ولا تجعلها تعذبك .. وأمامك الحياة .. لتعيش فى هدوء كما تحب وترغب ..
ـ لا أدرى هل رغبتى فى أن أعيش ستجعلنى أعيش أم لا .. إن الحياة لا تتوقف على رغبتنا أبدا ..
ومن خلال الشباك الواسع كانت سعاد ترى البحر ..
وقال الرجل وهو ينظر إليها ..
ـ لقد وجدت الحياة لكى نعيشها ، ولكنى لم أعشها قط .. كنت أشق الترع .. وأقيم الجسور والقناطر وأرسل الماء إلى الجداول والقنوات لأسقى الزرع وأبعث فى النبات الحياة .. ولكننى نسيت نفسى .. وعشت فى ضحالة مفزعة وها أنذا كما ترين .. أموت .. ولولا أن اللّه أرسلك إلىّ فى هذه الساعة .. لمت وحيدا كما تموت الكلاب ..
ـ لا تعذب نفسك .. وتفكر هكذا ..
ورأت العرق يسح منه فحنت إليه .. وغلبها التأثر .. فأخذت تمسح عرقه .. وتزداد اقترابا منه .. وبصرت بالدموع تبلل خديه .. فحنت عليه .. وأحاطها بذراعية .. وبللت الدموع صدرها والجزء الأمامى من ثيابها .. وعندما ضغط عليها بصدره ودفن رأسه فى جسمها لم تبتعد عنه ولم تبد أية حركة مقاومة خشية أن يصاب بصدمة ويموت ..
وكانت تتصور أنه لن يموت مادام فى أحضانها ..
وأحست بيده تمسح برقة على ظهرها .. وذراعيها .. وجسمه يلتصق بها أكثر وأكثر .. واستسلمت له وهى لا تحس بأيه لذة حسية .. كانت المسألة بالنسبة لها تضحية وصلت أقصى مداها ..
ونام هادئا ودثرته .. وخرجت إلى غرفتها ..
وفى الصباح .. بحث عنها فى غرفتها .. فوجدها خرجت مبكرة إلى عملها ..
وركب مثل السيارة الصغيرة التى جاءت به .. ليعود بها إلى رشيد .. ولما لم يجد ركابا غيره أستأجرها وحده ..
كان يود أن يصل عزبته قبل أن تشتد حرارة النهار .. وجلس على المقعد الخلفى مستريحا وهو يفكر فى أن يغير من أسلوب حياته ونهجه فى الحياة ..
وكان السائق ينطلق بسرعة الريح فقد كان الطريق خاليا إلا من القليل من العربات وقبل أن يبلغ أدكو .. تمهل وتلفت .. فقد خيل إليه أن الراكب يناديه لشىء أصاب السيارة ، فوقف ثم نزل ودار حول السيارة واقترب منه يسأله عن الخبر .. ووجده .. ملقيا رأسه على صدره كأنه قد نعس .. ولكن لما حركة عرف أنه نائم النومة الأخيرة النوم الذى لا حلم فيه ولاصحو بعده ..
=============================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 27/5/1961 وأعيد نشرها بمجموعة قصص محمود البدوى بعنوان " ليلة فى الطريق " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================
قصة محمود البدوى
فى وقت العصارى .. وفى بداية الصيف كانت سيارة أجرة صغيرة تسرع على الطريق الزراعى المرصوف .. الملاصق لخط سكة حديد رشيد ..
وكان الطريق يبدو خاليا الا من عربات النقل التى تمر من حين إلى حين محملة بالأخشاب .. والدريس والأسماك .. وفناطيس البترول ..
وكانت الرمال البيضاء تلتمع تحت الشمس .. تبدو للراكبين فى السيارة كبحر من اللجين ..
وعند أدكو تمهلت السيارة .. واشتم المسافرون الثلاثة أنفاس البحيرة وشاهدوا زوارق الصيادين طاوية أشرعتها وواقفة فى صف طويل قريبا من الساحل كأنها فرغت من كد النهار وتعبه ..
وعندما خرجت السيارة من حدود أدكو أنطلقت كالسهم وركز السائق كل حواسه على الطريق وأطبق فمه .. وكذا جميع الراكبين معه .. فلم يتبادلوا كلمة واحدة ..
وأخذت النسمات الرطبة تصافح وجوههم فانتعشوا وأخذوا يتابعون مزارع الأرز والقمح والبرسيم التى يمرون بها فى الطريق ..
ولم تكن تجمعهم أية صلة غير صلة الركوب من رشيد فى عربة واحدة ..
وكان السيد / مهران المفتش السابق للرى أطول الراكبين فى السيارة قامة وأكثرهم هيبة ..
كان ذاهبا إلى الإسكندرية لمهمة قصيرة تتصل بمعاشه .. إذ سيستبدل جزءا منه بمبلغ من المال يدفع منه أقساط الأرض التى أشتراها بالتقسيط .. وقد أشتغل بالأرض وأخذ يفلحها ويزرعها ..
وانقطع منذ خرج من الوظيفة لشئون الزراعة.. وركبته الديون والهموم بسبب جهله وعدم خبرته .. ولكنه ظل فى الطريق .. يجاهد بكل ما يملك من حول ويشترى قطعة الأرض الجيدة لتكون عوضا له عن الرديئة التى أستنزفت ماله وجهده ..
وكان أعزب وأخوه الأكبر إسماعيل عاش ومات أعزب .. وورثت معاشه الحكومة .. وكان المصير نفسه يعذبه ويجعله يفكر دوما فى أن يستبدل معاشه كل سنتين أو ثلاث حتى لا يتبقى منه شىء فى آخر أيامه ترثه الحكومة ..
وكان السيد مهران فى الثالثة والستين من عمره ولكنه يبدو أصغر من سنه إذ كان طويلا قوى الجسم .. متين التركيب .. وكان كل من يراه وهو يمشى منتصب القامة منتظم الخطو يتصور إنه تخرج من كلية عسكرية ..
وكان فى خلال حياته كموظف قد ذهب إلى كل مكان حتى تفتيش الرى بالسودان قضى فيه سنتين من عمره ..
وأكسبه هذا التنقل صحة بادية .. إذ لم يكن يشكو من أية علة ولم يذهب إلى الطبيب إلا فيما ندر ..
وكان يبدو شابا فى كل حركاته .. فى مشيته .. وفى نشاطه .. لذلك لم يعر باله إلى الكشف الطبى .. الذى سيتقدم إليه فى صباح الغد .. لأنه كشف قبل ذلك مرتين .. وكانت النتيجة مرضية ..
وكانت السيارة الصغيرة تسرع على الطريق الضيق المرصوف .. وأنفاس البحر البعيد عن الركاب جدا بدت تدخل أنوفهم .. وكانوا جالسين فى صمت .. وكل راكب منهم يفكر فى خواطره وسوانح فكره .. وفيما هو ذاهب إليه ..
وكان السيد مهران يعتزم أن يقضى ليلة واحدة فى الإسكندرية وبعد الكشف الطبى يرجع توا إلى عزبته .. إذ لم يكن يحب أن يمضى أياما فى الإسكندرية .. ويترك شئونه وزراعة الأرز والقمح للريح ..
وكانت الطريق تدور وتلتوى أمام بصره وهو ينظر إلى زراعات القمح ويقارنها بزراعته .. وكان شغفه بالزراعة قد جعله يهمل هندامه فبدت بدلته غير مكوية ..
وكانت السيارة وهى تقترب من المعمورة قد بدت تدخل مع أنفاس البحر .. وبدا البحر على الجانب الأيمن من الطريق .. ساكن الموج جميلا كالعروس الضاحكة ومياهه الزرقاء تبدو كصفحة السماء ..
وعلى حين غرة اعترضت سيرهم سيارة كبيرة قادمة من الطريق المضاد وكادت تهشم سيارتهم وتسحقهم لولا أن السائق أنحرف بهم فى براعة وسرعة بعيدا عن الخطر الداهم ..
وأغمى على أحد الركاب من هول المفاجأة .. وأخذ السيد مهران .. والراكب الآخر يسعفانه حتى أستفاق ..
واستأنفوا سيرهم وأخذ السائق الذى كان ملجما لسانه طول الطريق .. يسب ويلعن سائقى سيارات النقل .. وحاملات البترول .. واقتربوا من المنتزه بحدائقه وأشجاره العالية ..
وعندما دخلت السيارة المدينة كانت المصابيح تلمع فى الشوارع وبدت أنوار السيارات تسطع فى طريق الحرية ..
وكان مهران قد زار الإسكندرية منذ ثلاثة شهور ولكنها لم تبد فى نظره جميلة كما هى الساعة .. كان الشارع الواسع بهيجا بعماراته وفيللاته .. والأشجار العالية .. تزينه .. وتزيده روعة ..
وشاهد من نافذة السيارة فيللا صغيرة من طابقين بطراز عربى ، ولها حديقة مزهرة فتمنى أن يقيم لنفسه مثلها .. فى منطقة سموحة أو مصطفى باشا .. حيث الهواء والهدوء والجمال .. ويجعلها استراحة .. ويستريح فيها بعد كده وتعبه فى الأرض ..
وبدت المدينة فى نظره جميلة قبل أن تزدحم بالمصيفين .. وتذهب نضرتها فى زحمة الناس ..
وعندما نزل من السيارة فى محطة الرمل وجد السيد إبراهيم فى انتظاره.. وهو شاب نحيل .. وكان السيد مهران قد أدى له خدمة فى التفتيش ..
وأصبح مهران كلما قدم الإسكندرية يسرع إبراهيم إليه ليساعده ويقوم نيابة عنه بكل أعماله .. فى إخلاص نادر ..
وتناول من مهران حقيبته واتجها إلى البنسيون الذى اعتاد مهران أن ينزل فيه كلما هبط المدينة .. ويقع فى شارع صغير وراء فندق سيسل وتديره سيدة أجنبية عجوز ..
وكان مهران يحب النزول فيه لهدوئه ورخصه فهو يدفع 35 قرشا فقط مع تناول الأفطار ويحس وهو يقيم فيه كأنه فى بيته ..
وكانت العجوز تعيش فى غرفة من البنسيون وتؤجر الثلاث الباقية .. ونادرا ما تشغل الغرف كلها فى وقت واحد ..
وعندما دخل عليها فى هذه الليلة .. شعر وهو جالس فى الصالة .. بوجود ساكن فى الغرفة المقابلة لغرفته وكان قوموسيونجيا .. يتجول ثم يرجع إلى البنسيون ليقضى ليلة أو ليلتين .. ثم يستأنف تجواله فى البلاد ..
واغتسل مهران ونزل مع إبراهيم ليتعشى ويتجول فى المدينة قبل أن ينام ..
وتعشى وحده فقد رفض إبراهيم بإباء أن يشاركه الطعام وجلسا على قهوة رويال .. ثم تركه إبراهيم .. بعد أن وعده بأنه سينتظره فى الصباح الباكر على باب المركز الطبى ..
ورجع مهران إلى البنسيون .. وفتح الباب بالمفتاح الذى أعطته له المدام .. فلم يجدها ساهرة ووجد سيدة تجلس فى الصالة وحدها .. ولما مر بها حياها ودخل إلى غرفته ولكنه أبقى الباب مفتوحا ..
فرأى هذه السيدة من مكانه وهى تتحرك فى الصالة .. وكانت شابة بيضاء طويلة .. لفاء العود .. سوداء الشعر .. وعلى خدها غمازتان مع أنف دقيق وشفتين فى لون الكريز .. وبصر بها تتحرك فى الصالة وتدخل غرفتها ..
ونام مهران فى فراشه .. وهو يحس بتعب المشوار الذى قطعه بالسيارة .. ولكنه لم ينم نوما عميقا .. كان قلقا .. ويود أن ينهى الكشف الطبى سريعا ويعود إلى زراعته ..
وفى الصباح .. نظر وهو خارج إلى أبواب البنسيون المغلقة .. ولعله كان يبحث عن المرأة التى بصر بها فى الليل ..
* * *
وكانت ردهة المركز الطبى ممتلئة بمن جاءوا للكشف .. عندما دخل مهران من الباب .. وقابله إبراهيم على الفور ببشاشته ..
وقال له :
ـ ورق .. سيادتكم جاهز .. وستدخل حالا ..
ودخل مهران حجرة الكشف .. فوجد سيدة ترتدى معطفا أبيض فظنها ممرضة فبحث بعينيه كأنه يود أن يسألها أين الطبيب ثم عرف بعد لحظات لما تحركت نحوه يالسماعة أنها الطبيبة التى ستكشف عليه ..
وكانت قد لاحظت نظراته فظهر على وجهها الامتعاض ولم تستطع أن تكتم أنفعالها .. وكانت خمرية اللون متوسطة الطول .. أقرب إلى السمنة .. ووجهها مستدير .. حلو ..
كان جمالها فى الواقع غريبا عنه .. فى هذا الجو .. فقد رأى من قبل حكيمات وممرضات فى المستشفيات وعيادات الأطباء ولكنه لم ير طبيبة بمثل هذه الفتنة ..
ووضعت السماعة على قلبه .. وقالت له .. وهى تنظر إلى قامته كأنها تقيس طوله ..
ـ تنفس ..
فحرك صدره ..
ـ كمان ..
وفتحت شفتيها ثم زمتهما .. وانطبقت أهدابها ..
فقال لها مهران وهو ينظر إلى الخرطوم المتدلى وفى طرفه السماعة ..
ـ هذه هى المرة الرابعة التى أكشف فيها عن صدرى لطبيب ..
ـ وكانت كلها للاستبدال .. ؟
ـ للإستبدال والإجازات المرضية ..
ـ ولغير هذا ..
ـ لم يحدث ..
ـ لم تمرض فى حياتك ..
ـ ابدا وكل الأطباء الذين كشفوا على قبلك ماتوا ..
ـ ماتوا .. ؟
ـ ماتوا جميعا .. ولكن أنت جميلة .. وخسارة فى شبابك هذا أن يدركك الموت ..
وقلبت شفتيها .. ولم تنطق ودونت شيئا على الورقة .. دون أن تنظر إليه ..
وسألها :
ـ ألبس .. ؟
ـ نعم .. وتفضل .. إلى غرفة الأشعة ..
وخرج من الغرفة فوجد إبراهيم ينتظره على الباب وسأله إبراهيم لما رآه مضطربا ..
ـ انتهى الكشف ..
ـ أجل .. وأحالتنى على الأشعة ..
ـ لماذا .. ؟
ـ كتبت على الورقة .. هبوط فى القلب .. أشعة ..
ـ لا تفكر فى هذا .. سماعاتهم خاطئة فى معظم الحالات .. وسيطمئنك الرسم الكهربائى ..
ولكن مهران رغم أن الشاب أستقبل الخبر ببشاشته المعهودة وطمأنه .. فإنه لم يطمئن وظل قلقا .. فهذه هى المرة الأولى فى حياته التى يسمع فيها هذا النبأ عن قلبه .. هبوط فى القلب .. ولماذا ..
وظل يفكر فى الأمر .. وقد أحس بأنه شاخ فى ساعة وأضيف إلى عمره عشرون سنة أخرى ..
وأركبه إبراهيم عربة إلى البنسيون وركب بجواره .. وعندما فتحت له صاحبة البنسيون الباب وجدته متجهما لأول مرة ..
ورأى وهو داخل القومسيونجى يتحدث فى التليفون ..
ودخل مهران إلى غرفته وهو ساكن كالصنم ولاحظت صاحبة البنسيون وجومه فأخذت تحادثه هى وإبراهيم ويسريان عنه ..
وكان مهران بعد أن بارح مركز الكشف يفكر فى أن ينتظر فى الإسكندرية نتيجة الأشعة .. ولكنه وجد أن بقاءه فى المدينة .. سيزيده هما وقلقا ويجعله يفكر دائما فى المرض ويضخم المسألة .. فقرر أن يشغل نفسه بالعمل فى الريف وأن ينسى الموضوع .. ويستغنى عن المبلغ والأرض الجديدة .. ويسافر إلى أدفينا فى الصباح .. يركب أول سيارة ذاهبة إلى رشيد أو يأخذ القطار ..
وذهب إلى مطعم ليتعشى وهو مهموم .. فأكل كثيرا ولم يكن منذ ذهب إلى الريف يشرب الخمر .. ولكنه شرب فى هذه الليلة حتى أحس بأنه يعرق ..
وكان إبراهيم يرافقه ويسرى عنه ويكرر قوله بأنه سيتعجل نتيجة الكشف ويزف إليه البشرى بسلامة القلب من كل مرض ..
وكان الشاب صافى النفس يحب الرجل حقا .. ويذكر له صنيعه القديم .. منذ كان فى التفتيش .. فقد عينه فى وظيفته الحالية التى يعيش منها الآن .. ولولاه لما توظف قط .. ومن وقتها وهو يحفظ للرجل جميلة ويقوم له بكل الخدمات ..
وكان مهران يراه المصرى الخالص الأمين الصافى النفس والقلب .. الذى لم يلوث طباعه وأخلاقه الأجنبى الدخيل ..
وكان مهران فى كل مرة يجىء فيها إلى الإسكندرية .. يخرج للشاب من جيبه جنيهين أو ثلاثة لأنه يعرف أنه فقير ويعول والدته المريضه وأخته الصغيرة .. ولكن إبراهيم كان يرفض بإباء وشمم أية معونة ..
وكان مهران يعجب لصفات الشاب ..
* * *
وفى منتصف الليل ودع إبراهيم مهران على باب العمارة .. وصعد هو إلى البنسيون وأحس وهو صاعد بالقلق يعاوده ..
ودخل البنسيون وهو يتمنى أن يجد العجوز ساهرة ليثرثر معها .. ولكنه وجدها نائمة .. وكان القومسيونجى قد ترك غرفته وسافر منذ العصر ..
ودخل غرفته .. ولبس البيجامة وجلس على الكرسى الطويل يدخن .. وخيم على البنسيون سكون رهيب وراح الليل يمر متباطئا ثقيلا .. وأحس بحاجته إلى أن يشرب فنجانا من القهوة .. فكيف يشربه .. ؟ أيذهب إلى المطبخ ويبحث عن البن والسكر على الرف ..
وسمع صرير الباب الخارجى فى هذه اللحظة وأحس أن شخصا يتسلل إلى داخل البيت ..
وسمع أقدامها الخفيفة فى البهو .. ولم تكن إلا هى .. السيدة التى رآها بالأمس .. وهى عائدة من السينما .. أو من سهرة ليلية ..
ودخلت غرفتها .. ثم خرجت إلى المطبخ ..
وأحس بالصداع .. فمشى إلى المطبخ .. فوجد السيدة تضع شيئا على النار .. وخجل لما دخل عليها وهو لابس البيجامة ..
وقال متلطفا :
ـ أرجو المعذرة .. لإزعاجك ..
ـ العفو أتريد شيئا .. ؟
وكانت لهجتها مصرية خالصة ..
ـ فنجان من القهوة .. أحس بصداع .. وارجو أن تدلينى على مكان البن والسكر لأصنعه بنفسى ..
ـ حاضر .. تفضل استرح .. وسأحمل لك الفنجان إلى غرفتك ..
ـ شكرا .. سأظل لأحمله عنك ..
ـ المسألة بسيطة .. تفضل ..
وظلا واقفين .. فابتسمت .. كان وجهها يشع نورا ..
كانت بيضاء .. مثل الدكتورة التى كشفت عليه فى الصباح .. وأجابته بطعنة فى القلب .. ولكن هذه أطول قامة .. وأكثر أنوثة ..
وسألت برقة .. قبل أن تضع البن ..
ـ سكر .. زيادة ..
ـ مضبوط ..
ـ وأنا أيضا .. بشربها مضبوط ..
ـ هذا جميل ..
واستدارت بجانب الوجه .. ورأى ظل الأهداب .. على الخد الأيمن .. والأذن الصغيرة المغطاة بالشعر الغزير .. والبلوزة تضم الكتفين الرقيقتين والصدر النافر .. والجونلة التى انثنت مع استراحة الرجل .. وبدت استدارة الساق وفوقها التنورة الحريرية كأنما تلسعها نار الموقد فتبتعد بها .. وتقترب ..
ورأى هذا كله فى ومض سريع .. ولما حملت الصينية برقة .. ومشت أمامه .. مشى خلفها وكان يتوقع أن تضع صينية القهوة فى الصالة .. ولكنها دخلت غرفته .. ووضعت له الفنجان على النضد ..
وحيته بهزة من رأسها .. وخرجت حاملة فنجانها ..
وتناول الفنجان .. وأخذ منه رشفتين ولكنه أحس بالتعب .. وبالصداع يزداد .. فأعاد الفنجان إلى النضد وأرتمى على المقعد وهو شاحب الوجه .. وأحس كأن الغرفة تدور به .. فتحرك دون وعى وضغط على الجرس الموجود قرب السرير .. وجاءت على أثره السيدة سريعا ..
فأشار إليها بسبابته .. دون أن ينطق ..
وسألته برقة ..
ـ مالك .. ؟
ـ أحس .. بتعب شديد .. دارت بى الغرفة ..
ـ أشرب القهوة ..
وسألها وهو يدير عينيه ..
ـ أنا كنت هنا من ثلاثة شهور .. ولم أرك ..
ـ جئت بعد ذلك ..
ـ وحضرتك من إسكندرية .. ؟
ـ من المنصورة ..
ـ فسحة ..
ـ أننى موظفة فى شركة باسكندرية ..
ـ وتعملين الصبح .. وبعد الظهر ..
ـ أجل .. ولقد أحببت الإقامة عند المدام .. لأنها هادئة .. ولا يوجد عندها أحد تقريبا .. ولذلك أنا أساعدها فى المطبخ .. وتأكل معى ..
ـ إذا بقيت أياما سآكل معكما ..
ـ أهلا .. يسرنا ذلك ..
وكانت تود أن تستأذنه .. وتعود إلى غرفتها .. ولكنها رأت جبينه يعرق .. ووجهه يزداد شحوبا ..
وكان وجود امرأة معه فى غرفته وفى سكون الليل .. قد جعله يضطرب .. فعرق .. وظهر الاضطراب على وجهه ..
فسألته :
ـ أتحس بألم ..
ـ تعب .. هبوط فى القلب .. قالت لى الدكتورة اليوم هذا ..
ـ لا تصدق هذا الكلام .. إنها مخطئة .. وجهك كالورد ..
ـ مع الأسف إنى أصدقه .. إنى الآن فى فقر عقلى .. وأن خوفى من الموت ليشل جوارحى وقد فقدت كل صمام للأمان .. أشاعت بكلمتها الإضطراب فى نفسى .. واستولى علىَّ الذعر .. وأرجو أن تبقى معى قليلا حتى أنام .. أرجوك ..
وظلت بجانبه .. تحادثه ..
ودقت الساعة فى البنسيون الواحدة صباحا وكانت سعاد تنصت إلى صمت الليل .. وتحملق فى سماء الغرفة .. وفى الرجل الجالس فى سكون وسمعته يقول دون أن يحرك رأسه ..
ـ لقد أربكت نفسى بشىء لم أخلق له .. ولو أننىبدل أن أشتغل فى هذه السن بالزراعة وبعمل لا أحسنه قط وليست لى به أية دراية .. مشيت بين الفلاحين وأخذت أشرح لهم كيف يقيمون الطنابير على المساقى ويشقون القناوات والجداول والترع الصغيرة .. لكان أكرم لى ..
ـ لا تفكر فى المسألة هكذا ولا تجعلها تعذبك .. وأمامك الحياة .. لتعيش فى هدوء كما تحب وترغب ..
ـ لا أدرى هل رغبتى فى أن أعيش ستجعلنى أعيش أم لا .. إن الحياة لا تتوقف على رغبتنا أبدا ..
ومن خلال الشباك الواسع كانت سعاد ترى البحر ..
وقال الرجل وهو ينظر إليها ..
ـ لقد وجدت الحياة لكى نعيشها ، ولكنى لم أعشها قط .. كنت أشق الترع .. وأقيم الجسور والقناطر وأرسل الماء إلى الجداول والقنوات لأسقى الزرع وأبعث فى النبات الحياة .. ولكننى نسيت نفسى .. وعشت فى ضحالة مفزعة وها أنذا كما ترين .. أموت .. ولولا أن اللّه أرسلك إلىّ فى هذه الساعة .. لمت وحيدا كما تموت الكلاب ..
ـ لا تعذب نفسك .. وتفكر هكذا ..
ورأت العرق يسح منه فحنت إليه .. وغلبها التأثر .. فأخذت تمسح عرقه .. وتزداد اقترابا منه .. وبصرت بالدموع تبلل خديه .. فحنت عليه .. وأحاطها بذراعية .. وبللت الدموع صدرها والجزء الأمامى من ثيابها .. وعندما ضغط عليها بصدره ودفن رأسه فى جسمها لم تبتعد عنه ولم تبد أية حركة مقاومة خشية أن يصاب بصدمة ويموت ..
وكانت تتصور أنه لن يموت مادام فى أحضانها ..
وأحست بيده تمسح برقة على ظهرها .. وذراعيها .. وجسمه يلتصق بها أكثر وأكثر .. واستسلمت له وهى لا تحس بأيه لذة حسية .. كانت المسألة بالنسبة لها تضحية وصلت أقصى مداها ..
ونام هادئا ودثرته .. وخرجت إلى غرفتها ..
وفى الصباح .. بحث عنها فى غرفتها .. فوجدها خرجت مبكرة إلى عملها ..
وركب مثل السيارة الصغيرة التى جاءت به .. ليعود بها إلى رشيد .. ولما لم يجد ركابا غيره أستأجرها وحده ..
كان يود أن يصل عزبته قبل أن تشتد حرارة النهار .. وجلس على المقعد الخلفى مستريحا وهو يفكر فى أن يغير من أسلوب حياته ونهجه فى الحياة ..
وكان السائق ينطلق بسرعة الريح فقد كان الطريق خاليا إلا من القليل من العربات وقبل أن يبلغ أدكو .. تمهل وتلفت .. فقد خيل إليه أن الراكب يناديه لشىء أصاب السيارة ، فوقف ثم نزل ودار حول السيارة واقترب منه يسأله عن الخبر .. ووجده .. ملقيا رأسه على صدره كأنه قد نعس .. ولكن لما حركة عرف أنه نائم النومة الأخيرة النوم الذى لا حلم فيه ولاصحو بعده ..
=============================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 27/5/1961 وأعيد نشرها بمجموعة قصص محمود البدوى بعنوان " ليلة فى الطريق " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق